تأملات في مخاطر تطور المشهد الليبي
سوف يتوقف الباحثون طويلا أمام المشهد الليبي الذي بدأت فصوله المعاصرة منذ شباط (فبراير)2011، وإن كانت جذوره تمتد في التاريخ العربي منذ الفاتح من سبتمبر 1969، وقد ظن الناس أن النظام في ليبيا قد انسجم مع الشعب وأن اللجان الشعبية هي أعلى مراحل الديمقراطية وأن توزيع الموارد على الشعب وتفرغ "القائد" للفكر والإبداع هو النظام النموذجي. الوجه الظاهر من النظام طوال العقود الأربعة الأخيرة أمران، الأول اغتيال المعارضين. والأمر الآخر، هو توتر علاقات ليبيا مع كل الدول العربية تقريبا، خاصة مع مصر ومع السعودية وتونس والمغرب والأردن وغيرها، مثلما توترت علاقات ليبيا مع الجامعة العربية عدة مرات ودخلت ليبيا في صراعات مع تشاد ثم تعرضت لعقوبات قاسية بسبب حادث لوكربى دفع الشعب الليبي ما لا يقل عن 20 مليار دولار هي التعويضات والخسائر والمعاناة. وفجأة تفجرت الثورة وبدأ العالم يدرك أن سكوت الشعب الليبي مثل بعض الشعوب العربية الأخرى، رغم الرخاء الاقتصادي سببه الأجهزة الأمنية، وتلك آفة الكثير من النظم التي تفتقد القدرة على التفاعل مع شعوبها. وظن المتابع أن الغرب متعاطف مع الثوار وأن عبارات الهجاء للقذافي تقطع بأن أيامه معدودة، ثم منح مجلس الأمن تعويضات من الجامعة العربية بحماية المدنيين وإنشاء منطقة للحظر الجوى لشل يد الطيران الليبي عن مهاجمة مواقع الثوار في الشرق. اللافت للنظر في هذا المشهد أمور سيتم تسليط الضوء عليها تفصيلا في دراسات المراقبين والباحثين.
الأمر الأول: أن تدخل الناتو الذي تلقف التفويض الموجه إلى مجلس الأمن كان بهدف حماية المدنيين وليس إسقاط حكومة القذافي، وهذه مهمة غامضة؛ لأن هذه الحماية تتطلب التصدي لقوات القذافي المغيرة، ولكن مهمة قوات الناتو توسعت لتشمل خطة كاملة تهدف إلى ترك قوات القذافي تعبث بقدرات الثوار المحدودة حتى أجهدتهم إلى أقصى حد، فصاروا يطلبون العون والتسليح ثم الاعتراف من الناتو وغيره.
الأمر الثاني، هو أن موقف الغرب من القذافي بدا غريبا، فقد أوضح تحليل مجمل هذا الموقف أن الموقف مرتبك ومتناقض، ولكنه يتراوح بين كل مظاهر دعم المجلس الانتقالي حتى بلغ الدعم الدبلوماسي الاعتراف الكامل بهذا المجلس دون سحب الاعتراف بالمقابل من حكومة القذافي. يقابل ذلك تذبذب الموقف من القذافي؛ فتارة يعلن أن أيامه معدودة وأنه فقد الشرعية، وتارة أخرى أنه يجب تقديمه إلى المحكمة الجنائية الدولية بتهم الإبادة الجماعية وبقرار الإحالة من مجلس الأمن، وعلى العكس يؤكد الموقف من ناحية ثالثة أن التسوية السياسية ممكنة ولكن مع استبعاد القذافي، وتارة خامسة أن التسوية لا تصر على رحيل القذافي وتارة سادسة تشير التصريحات إلى أن التسوية بمشاركة نظام القذافي أو نجله. الموقفان الأوروبي والأمريكي أحيانا متناقضان أو توزيع للأدوار، وانتهى الموقف على ضرورة التسوية السياسية مع القذافي. أما موقف القذافي نفسه فهو موقف ثابت ومؤداه أنه صاحب الحق وأنه "دفع ثمن منصبه" حسب قوله، وأن الثوار قلة مارقة سيتم القضاء عليها تماما، وأنه سيقاتل إلى يوم الدين.
فهل قرر الغرب تقسيم ليبيا نهائيا بين شرق الثوار وغرب القذافي أم أن القرار النهائي لم يعلن بعد إزاء القذافي ونظامه، وماذا يضمر الناتو حقا لليبيا؟ يتزايد القلق حول مصير ليبيا ولزم التنويه والتحذير، ولكن الصبح قادم لا محالة وفجر الحرية يقترب.