القذافي والمحكمة الجنائية الدولية
أصدرت المحكمة الجنائية الدولية أوائل هذا الأسبوع قراراً باتهام العقيد القذافي ونجله سيف الإسلام ومدير مخابراته بارتكاب عدد من الجرائم ضد الإنسانية، وأكدت أن ارتكاب هذه الجرائم قد تم بعلم العقيد. هذه هي المرة الثانية التي تتهم هذه المحكمة الرئيس العربي الثاني بعد الرئيس البشير، وبذلك تكون المنطقة العربية هي العميل المفضل لدى هذه المحكمة مما يتطلب إعادة إلقاء الضوء على هذه المحكمة وشرح توقيت هذا القرار.
القرار صدر في وقت يعلن فيه الثوار عن تقدمهم صوب طرابلس، ووسط تصريحات غربية وروسية بأن التسوية مع القذافي مرفوضة، وأنه سيقاتل حتى يوم الدين، بينما راجت تسريبات أمريكية بأن القذافي يبحث عن الملاذ الآمن وأنه مستعد لتسوية لا يكون هو طرفا فيها. معنى ذلك أن القرار يشي بأن موعد محاكمته قد اقتربت بعد رحيله عن السلطة.
فمن الواضح أن سقوط الضحايا في ليبيا سببه الأساسي اعتقاد القذافي بأن هناك مؤامرة عليه وأن المؤامرة انخرط فيها بعض ''المنحرفين'' من الليبيين والمرتزقة'' وأن عدله وديمقراطيته هي التي استفزت الآخرين وجلبت له الحسد، وتدل كل تصريحاته على أنه قرر الخلاص من هؤلاء المتآمرين، حتى لو كانوا كل الشعب الليبي، بعد أن اتسعت دائرة المعارضة كلما سالت دماء الضحايا وتدفق آلاف اللاجئين إلى الدول المجاورة، وبعد أن أصبحت صفة اللاجئ غير قاصرة على الفلسطينيين ولكن شاركهم العراقيون والسوريون والليبيون وغيرهم.
فأين الحقيقة في موقف المحكمة الجنائية الدولية من القذافي وقبله من البشير؟
المحكمة الجنائية الدولية كانت وما زالت أمل الإنسانية في إقامة عدالة جنائية بقانون وقضاء وردع للحكام الذين يقودون شعوبهم إلى الجرائم أو يرتكبون هذه الجرائم، بحق شعوبهم والتي أصبح العالم العربي هو الساحة الرئيسة لها، وهى تختص بالمحاكمة على أربع جرائم هي الإبادة الجماعية، وجرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية، وجريمة العدوان. ويعد اختصاص هذه المحكمة اختصاصا تكميليا، أي أنه يكمل الاختصاص القضائي الوطني ولا يحل محله. إلا إذا تعمد القضاء التستر على الجريمة، أو انهارت الدولة بكل أجهزتها.
في حالة القذافي كما في حالة البشير صدر قرار إحالة الملف إلى المحكمة من جانب مجلس الأمن، التهمة الظاهرة هي ارتكاب جرائم من النوع الذي تختص المحكمة بالنظر فيه، ولكن المحكمة لا تنتصر للضحايا أو تعمل غيرة منها على انتهاك أحكام القانون الدولي، بل تعمل في سياق سياسي يتم به توظيف المحكمة. صحيح أن الجرائم المشار إليها في الحالتين وقعت ضد الشعبين السوداني في دارفور والليبي في كل ليبيا، إلا أن مسؤولية كل من الرئيسين عنها مختلفة، كما أن هدف تدخل المحكمة في الحالتين مختلف، في حالة البشير الضغط عليه حتى يسمح بانفصال الجنوب، أما في حالة القذافي فالهدف هو تسريع إنهاء حكمه وتراكم الضغوط عليه. في السودان المطلوب هو حماية وحدة السودان، أما في ليبيا فالمطلوب إنقاذ الشعب من البلاء، وفى الحالتين لا بد أن يلقى كل جزاءه، فكل من أسال دماء الأبرياء المحتجين سلمياً يقع في سماء محكمة التاريخ قبل محكمة لاهاي، ومن بعدها محاكم الديان يوم الحساب.