انخفاض القيمة النقدية للعملات ما بين الحقوق والالتزامات (2 من 2)

تحدثنا في المقال السابق عن انخفاض القوة الشرائية للنقود وتداعيات ذلك، والحقيقة أن أحد القراء الكرام ذكر ما يتعلق بسبب ربط الريال بالدولار وأن المقال السابق لم يشر إليه مع أهميته، وما ذكره صحيح وإن كنت أتحدث في الأساس عن العملة عموماً وليس عملة بعينها. ونكمل ما ابتدأناه فيما يتعلق بالأثر الفقهي لانخفاض القيمة النقدية للعملات وهو المهم في هذا المقال، فهل التضخم يؤثر في الحقوق والالتزامات المختلفة؟ فلنأخذ القرض مثالا على ذلك:
فإذا ما اقترض شخص من آخر ألفًا مثلا، وحان موعد ردها، وانخفضت قيمة النقود بمقدار مائة، فهل يردها إليه ألف ومائة أم ألفا فقط؟!
يجدر بنا هنا أن نعرض أقوال علماء المذاهب في هذه المسألة:
اختلفت أقوال الحنفية في هذه المسألة
فقد ذهب الإمام أبو حنيفة - رحمه الله - إلى وجوب المثل في جميع الحالات.
مع العلم أن صاحبيه ''أبا يوسف'' و''محمدًا'' - رحمهما الله - كانا يذهبان إلى الأخذ بوجوب القيمة، لكن أبو يوسف يأخذ بوجوب القيمة يوم ثبوت الحق في جميع الحالات أيضًا، بعد أن كان موافقًا لرأي الإمام في حالة تغير القيمة. وهناك تفصيلات مذهبية ليس هذا مجالها.
أقوال المالكية
وفي ''المعيار المعرب'' تحت عنوان: ''الحكم إذا بدلت سكة التعامل بأخرى'' يقول: (وسُئِل ـ أي أبو سعيد بن لب ـ عن رجل باع سلعة بالناقص المتقدم بالحلول ـ أي بالتقسيط ـ فتأخر الثمن إلى أن تحول الصرف، وكان ذلك على جهة، فبأيهما يقضي له؟ وعن رجل آخر باع بالدراهم المفلسة فتأخر الثمن إلى أن تبدل، فبأيهما يقضي له؟
فأجاب: لا يجب للبائع قِبل المشتري إلا ما انعقد البيع في وقته؛ لئلا يظلم المشتري بإلزامه ما لم يدخل عليه في عقده، فإن وجد المشتري ذلك قضاه إياه، وإن لم يوجد رجع إلى القيمة ذهبًا لتعذره) (المعيار المعرب، 6/461-462).
أقوال الشافعية
قال الإمام ''الشافعي'' في كتاب ''الأم'': (ومن سلف فلوسًا أو دراهم، أو باع بها ثم أبطلها السلطان؛ فليس له إلا مثل فلوسه أو دراهمه التي أسلف أو باع بها، ومن أسلف رجلا دراهم على أنها بدينار أو بنصف دينار فليس عليه إلا مثل دراهمه، وليس عليه دينار ولا نصف دينار...) (الأم، 3/33).
أقوال الحنابلة
قال ''ابن قدامة'' في ''المغني'': (وإن كانت الدراهم يتعامل بها عددًا فاستقرض عددًا رد عددًا، وإن استقرض وزنًا رد وزنًا، وهذا قول الحسن وابن سيرين والأوزاعي، ويجب رد المثل في المكيل والموزون، لا نعلم فيه خلافًا)،
ويقول ابن تيمية - رحمه الله: (لا يجب في القرض إلا رد المثل بلا زيادة، والدراهم لا تقصد عينها، فإعادة المقترض نظيرها، كما يعيد المضارب نظيرها، وهو رأس المال ـ ولهذا سُمي قرضًا ـ ولهذا لم يستحق المقرض إلا نظير ماله، وليس له أن يشترط الزيادة عليه في جميع الأموال باتفاق العلماء، والمقرض يستحق مثل قرضه في صفته) (مجموع الفتاوى، 29/473).
واتجه القانون الوضعي أيضاً بنفس الرأي منعًا لفتح باب كبير من الخلاف: فإذا كان محل الالتزام نقودًا التزم المدين بقدر عددها المذكور في العقد، دون أن يكون لارتفاع قيمة هذه النقود أو لانخفاضها وقت الوفاء أي أثر .. هذا وقد أصدر مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورته الخامسة قراره في هذا الشأن، حيث قرر ما يلي: (العبرة في وفاء الديون الثابتة بعملة ما هي بالمثل وليس بالقيمة، لأن الديون تُقضى بأمثالها، فلا يجوز ربط الديون الثابتة في الذمة ـ أيًا كان مصدرها ـ بمستوى الأسعار).
من هنا؛ فإن ما قال به أكثر الفقهاء هو الراجح، فالقرض لا يرد إلا مثله، ولا عبرة هنا بانخفاض قيمة النقود نتيجة الغلاء؛ اللهم إلا إذا انقطعت العملة لأي سبب من الأسباب كما حدث للدينار الكويتي؛ عندما انهار تماما عقب الغزو العراقي للكويت في آب (أغسطس) 1990، ففي هذه الحالة يمكن الأخذ برأي بعض الأئمة بالنظر إلى قيمة الدين.
كما يجب أن نعلم أن تغير قيمة النقود لا يظهر في القروض والديون فقط، إنما يظهر أيضًا في عقود أخرى؛ كعقد الإيجار، والبيع الآجل (التقسيط)، والمهور المؤجلة، فالنظر إلى تغيير قيمة النقود لا بد أن تكون شاملة عامة، ولا تقتصر فقط على الديون والقروض. إنما كان يغلب الحديث عن الديون بسبب القول بجواز الفائدة في البنوك عند انخفاض القيمة النقدية وتكون الفائدة مقابل انخفاض القيمة الشرائية للعملة.
وكل ما سبق أيضاً في حالة القول بوجود الربا بين النقود الورقية وهو قول جمهور العلماء أما في حالة القول بعدم جريان الربا في الأوراق النقدية لعدم دخولها في الثمنية الموجودة في الذهب والفضة فإن الزيادة والنقص لا يؤثران لعدم ارتباطهما بالحكم والمسألة خلافية وليس هذا مجال بسطها ولاستقرار تعامل الناس على رأي جمهور العلماء.
نسأل الله أن يبسط علينا وعليكم من واسع فضله والله أعلم.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي