سلطة منطق الحياة العملية

تختلف حياة العمل وأسلوبه عن أي حياة أخرى، وكثيراً ما يتأثر أصحاب المناصب ومديرو الإدارات بالفكر السلوكي لنمط العمل الذي يعيشونه يومياً فيطغى ذلك على حياتهم سواء في حياتهم الزوجية والأسرية أو الحياة العامة، بل ترى آثار ذلك في التعامل مع الأولاد، ويتعامل هؤلاء مع تلك الأنواع بالمنطق العملي الذي يسيطر على تفكيرهم تأثراً بالحياة العملية، التي تصاحبها غالباً الوجاهة الاجتماعية. وكثيراً ما نسمع بفشل العلاقات الاجتماعية لأمثال هؤلاء، وذلك لأن العقل ليس الوسيلة الوحيدة للتفاهم. وخلال هذه الأيام كنت أقرأ السيرة الذاتية لأحمد أمين، ولفت انتباهي ما دوّنه المفكر الأديب أحمد أمين في كتابه الرائع ''حياتي'' عندما ذكر تلك المشكلة في حياته الزوجية وقال: مشكلة وسائل التفاهم عندنا، كنت من غفلتي أعتقد أن العقل وحده الوسيلة الطبيعية للتفاهم، فإن حدثت مشكلة احتكمنا إليه وأدلى كل منا بحججه فإما أقتنع وإما أقنع، وإما أصر وإما أعدل، لكني بعد تجارب طويلة رأيت أن العقل أسخف وسيلة للتفاهم مع أكثر من رأيت من السيدات، فأنت تتكلم في الشرق وهن يتكلمن في الغرب، وأنت تتكلم في السماء فيتكلمن في الأرض، وأنت تأتي بالحجج التي تعتقد أنها تقنع أي معاند، وتلزم أي مخاصم، فإذا هي لا قيمة لها عندهن. تقول: إن الأرفق أن نتصرف في هذا الأمر بكذا لكذا من الأسباب، فترد عليك بأقوال متأثرة بعواطف ساذجة، وتقول: هذا التصرف لا يصلح لما يترتب عليه من أضرار تعينها، فترد عليك بأن العرف والعادة غير ذلك. وتعاقب ابنك لتؤدبه فتفسد العقوبة بتدخلها لمجرد العطف الكاذب. وتتصرف التصرفات الحكيمة فتؤولها بنظراتها العاطفية تأويلات غريبة. وهكذا أدركت أن من الواجب ألا ألتزم المنطق، وأني إذا أردت الراحة والهدوء فلأضحي بالمنطق أحياناً، وأتكلم الكلمة السخيفة إذا كان فيها الرضا، وألعب بالعواطف رغم المنطق إذا أردت السلامة. أ.هـ كلامه وأنصح القارئ الكريم بقراءة هذا الكتاب الماتع والعيش في رحابه فترة من الزمن. فالحياة الاجتماعية في البيت والأسرة صبغة ذات ألوان متعددة لا تتناسب مع أسلوب الحياة العملية لأنها تعتمد على منطلقات عاطفية وانتمائية، بينما الحياة العملية تعتمد على فكرة منطق قانون العمل الإداري وينخرط فيها الموظف سواء كان صغيراً أو كبيراً ويساير هذه القوانين والأنظمة وتتجسد في شخصيته أحياناً، وينبغي أن يدرك الجميع عدم الخلط بين أسلوب الحياة العملية وغيرها من أساليب الحياة، فهيبة المسؤول ومشيخة القاضي والسلطة العسكرية وفلسفة الأستاذ الجامعي ينبغي أن تنفصل جزئيا عن ذات الشخص في حياته العامة والأسرية خاصة، وكم يؤلمني عندما أرى بعض الأولاد تصبغ ألوان حياتهم بالنمط السلوكي لعمل والديهم فتجد حياتهم اليومية محكومة بتلك السلطة الأبوية التي هي امتداد لحياة العمل وكم رأيت ما فعل الزمان بهذه السلطة، لقد عشت مع أقران لي حتى رأيت سلطة الآباء تنهار وتحل محلها سلطة المجتمع والمؤثرات الخارجية، وكم رأيت بيتا يغلب عليه نمط معين فيحجر على الشاب عدم فعل بعض الأمور العفوية من قبل والده لأنها تخالف النمط السلوكي لعمل الأب والمتطلبات الاجتماعية التي تدور في ذهنه في كل صغيرة وكبيرة وكل صباح ومساء، بل رأيت أحد القضاة يجبر ولده الصغير الذي لم يتجاوز سبع سنوات على لبس الثوب والشماغ ويمنعه من لبس اللباس الرياضي أو اللباس الملائم لنمط سن الولد في مرحلته العمرية، كل هذا بحجة التعليم والتعويد للمشيخة! وغالباً يخيب ظن الوالد في ولده لأن الولد عندما يكبر يتمرد على هذه السلطة الشكلية ذات القيود الاجتماعية، ويتمرد على كل أفكارها واتجاهاتها، ولو قلبت نظرك يميناً وشمالاً لرأيت مصداق هذه الفكرة، وغالباً ما تجد الوالد يفعل هذا بأول الأولاد، لكن تخف هذه القسوة كلما تقدم في السن واتسع تفكيره. وحري بالبيت أن يكون بيئة خصبة لأنماط الحياة العاطفية، وأن تكون النزعة الدينية أو الفكرية فيه متوائمة مع الفئات كافة، بحيث ترسخ في التركيبة الشخصية لبقية أفراد الأسرة بأسلوب فيه جانب محدود من احترام الحرية الشخصية، وهذا الأسلوب من التعامل لا يستطيع الزمان اقتلاعه، لأن البذور الأولى كانت متناسقة مع طبيعة الحياة الاجتماعية فلا يغلب عليها نمط معين يفسدها، لذلك تبقى هذه البذور في التربة التي تعيش فيها والجو الذي يعاكسها أو ينميها حتى تعيش عيشتها المقدرة لها وفقاً للنظام الاجتماعي وقوانينه التي اختارها الله - سبحانه وتعالى.
أسأل الله لي ولكم التوفيق والسداد.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي