الإصلاح الإداري.. رؤية في تخطي الحواجز
عندما شهدت الدول المتقدمة في النصف الثاني من القرن العشرين تحديثا وتطويرا لأنظمتها الإدارية والمالية، لم تكن تخشى انكسار هيبة النظام وتعظيمه في نفوس مواطنيها جراء التغيير والتجديد في منهاج حياة يفترض أنه وضع على العدل والثبات بقدر ما كانت تخشى ما ستؤول إليه أنظمتها تلك كدول تنافس على المستقبل، ومدى صلاحها للوصول من خلالها إلى الأهداف والطموحات.
فالأنظمة الإدارية في نظرها ما هي إلا جسور عبور، وقنوات توصلهم إلى الطموح الكبير والهدف المرسوم فكانت لا بد وأن تتسم بالموضوعية والمرونة والقابلية للتحديث والتجديد المستمر فأسست لثقافة تطويرية عامة لا تستثني حتى الأنظمة ذاتها، وقد جاء ذلك كنتيجة طبيعية لمتغيرات مختلفة ومستجدات متلاحقة في شتى مناحي الحياة العامة.
ومنذ مرحلة التأسيس الإداري للمملكة العربية السعودية 1343هـ وأنظمتنا الإدارية تحظى بالتحديث والتطوير ولكن ليس بمقدار ما يتساوى مع التحديث والتطوير الذي تشهده عمرانيا وصناعيا وتجاريا ومختلف مجالات الحياة العامة، حيث إن الأنظمة الإدارية تعد لاعباً حقيقياً ومميزا في التنمية الشاملة، كما أنها تحمل بعداً عالمياً يتجاوز الوضع المحلي والداخلي إلى الإقليمي والدولي، فالتنمية والاستقرار في أي بلد كان تبقى دائما محط نظر رأس المال، ودافعا لجلب الاستثمار الأجنبي، وهذا ما تميزت به بلادنا خلال العقود الأخيرة الماضية، وبإطلالة عابرة لتاريخ أنظمتنا الإدارية من خلال مراحلها الثلاث: التأسيس والانطلاقة والتنمية حسب تقسيم معهد الإدارة العامة فإننا نجد أنها بحاجة إلى التدخل والدراسة وإعادة النظر لأجل إصلاحها بما يتواكب والتنمية الوطنية الشاملة، فقد بلغت من الكبر عتيا، وتجاوز الزمن منها كثيرا، فليس من الحكمة أن تبقى كما وضعها الراحلون، وقد تغير الزمان ولم يعد المكان بالمكان.. وإذا كانت الفتوى الشرعية ـــ مع قدسيتها ـــ تتغير بتغير المكان والزمان فمن أولى أن تتغير وتتطور وتتجدد أنظمتنا الإدارية. ففي ضوء ما نراه من التحولات الحضارية، والقفزات التطويرية الشاملة تشتد حاجتنا إلى تطوير أنظمتنا الإدارية، تطويرا مبنيا على دراسة دقيقة لآفاق الماضي والحاضر والمستقبل، بما يتواكب مع التنمية العمرانية والتعليمية والتقدم الاقتصادي بالشكل المأمول.
لقد شاخت وترهلت، وأصبح تطوير الكثير منها أمراً حتميا فلا أحد يستطيع العمل في ظل أنظمة لا تساعد على الإبداع، وآليات لا تنتج إلا مزيدا من الإجراءات المعقدة، التي دائما ما يكون ضحيتها المواطن الذي كان وما زال محط اهتمام خادم الحرمين الشريفين في توجيهه لكل الجهات بأولوية خدمته وسرعة إنجاز معاملاته. فتقديم خدمات متميزة للمواطنين، والالتزام بالعمل بجد واجتهاد وفعالية هي أساس إنشاء الوزارات والمصالح الحكومية وهي ما يجب أن يدركه من يطور ويحدث النظمة ومن يعمل فيها.
وعودا على بدء فإن عدم التفكير والتدخل لإعادة النظر في تجديد وتطوير وتحسين الإجراءات الإدارية أو بمعنى أدق إعادة بناء المنظمات الحكومية وهيكلتها حتى تتواكب مع المتغيرات والمستجدات الدولية ولا سيما وقد دخلت المملكة ضمن دول العشرين الصناعية فإن ذلك سيكلفنا الكثير من المال، والكثير من الجهد، والأهم من هذا وذاك هو المزيد من التأخر في السباق الريادي العالمي الذي ترنو إلى مقدمته قيادتنا الرشيدة.
فأنظمة الخدمة المدنية، والترقيات والمكافآت، بل والتعيين والفصل وغيرها، إذا ما تطورت التطور الفاعل الذي يواكب التطور العالمي فلن نستطيع أن نبني مؤسسات فاعلة، تتوافق والنهضة العمرانية والعلمية بل والصناعية التي تشهدها المملكة وتعمل على التنافس من خلالها مستقبلا، وكيف لنا ذلك وليس للمسؤول في أنظمتنا الإدارية أن يجبر موظفه على العمل الجاد والفاعل، فهو لا يملك قرار فصله، والموظف لا يخشى منه ذلك، كيف لنا ذلك ونحن نرى الموظفين على بند العقود وما لديهم من فاعلية وكفاءة متميزة، بل شعلة من الحماس والنشاط ثم في لحظة التثبيت الرسمي تنطفئ هذه الشعلة وتجده بعدها على النقيض تماما.. لماذا تغيب الكفاءة والفاعلية والإبداع بعد تثبيته؟ لأن النظام لا يمنعه من ذلك.. أو سمح له أن يعمل بتلك الطريقة وفقا لآلية الترقية والعمل.. ولذلك لا بد أن تكون هناك قيم ومفاهيم يتحلى بها الموظف أولا بعيدا عن الرقابة الإدارية تكون الرقابة الذاتية حاضرة وبقوة فيها، وأيضا لا بد أن يكون هناك نظام دقيق، وتقييم فاعل، كما لا بد أن تكون آلية التقييم واضحة ومحدودة، لا تجد المزاجية والأهواء إليها سبيلا، ولا تخترقها المحاباة والمجاملات بل وفق أسس علمية ومنهجية مبنية على معايير واضحة وعادلة بحيث تمكن من قياس الأداء بفعالية كفاءة، وتحقق العدل والمساواة بين الموظف والمسؤول.
إن أجهزتنا الإدارية اليوم بمختلف مجالاتها لا تختلف كثيرا عن المنظمات الخاصة التي ما تنفك تحدث وتطور من أنظمتها التنفيذية سواء ما يتعلق بالمنهجية الإدارية أو ما يتعلق بالآلية والإجراءات العملية، بل إنها أحرى بالتحديث والتطوير الفاعل فهي تملك الدعم اللامحدود من القيادة الرشيدة، وتملك الكوادر المؤهلة القادرة ـــ بإذن الله ـــ على التطوير الشامل والضامن لإنتاج أفضل، وجودة عالية، وامتلاك الاستجابة الإيجابية للفرص والتحديات، فتصبح نظمنا الإدارية نظماً مؤسساتية ترسي ثقافة المسؤولية الوطنية التي في غيابها تنقلب المؤسسة إلى أنظمة مزاجية وارتجالية، تضاعف المشكلة، وتزيد من التعقيدات.
إن المعطيات والاحتياجات، والتغيرات والتحديات تفرض علينا ضرورة التعامل المتقدم مع قضايانا الأساسية بل وتدعونا إلى تخطي الحواجز الفاصلة والتقييم المستمر والفاعل، فالتنمية التي نعيشها اليوم يجب ألا تعوقها إجراءات روتينية منفرة، أو ثقافة إدارية عششت على البيروقراطية السلبية في ظل غيبة الرقيب. ومع العولمة الاقتصادية والمعرفية، وحصول المملكة على مراكز متقدمة في السوق التجارية العالمية أضحى من الواجب الوطني أن نضع موازين التقييم والمراجعة لأنظمتنا الإدارية، لنعمل في ضوء الشريعة الإسلامية والتقدم التقني على توليد أنظمة وإجراءات إدارية منسابة وسلسة تواكب التطور وتساعد على الإبداع والبناء وألا نتجاهل ما هو حاصل عالميا كمرجعية مهمة للتطوير الإداري. فلم نعد نتحمل الكثير من الوقت والأجنبي الذي سيتوافد للاستثمار في بلادنا سيوجد لنا المزيد من الفرص الوظيفية، وسيزيد من دخلنا المحلي، إننا بحاجة أكثر من أي وقت مضى إلى أنظمة خالية من التعقيدات والإجراءات البيروقراطية غير المبررة، لأجل مشاكلنا الكبرى.. لأجل وطننا الكبير... ودمتم سالمين.