قياس الأداء للأجهزة الحكومية والحلقة المفرغة
لا يزال المشهد في إدارات القطاع الحكومي يرزح تحت عديد من الظواهر والمؤشرات السلبية التي تؤدي إلى إضعاف مستوى الخدمات المقدمة للمستفيدين من المواطنين والمقيمين، من أبرزها:
ـــ وجود الكثير من المعوقات التنظيمية الضخمة من عدم وجود استراتيجيات واضحة، وتقادم الهياكل التنظيمية، أدت إلى ترهل إداري كبير، وبيروقراطية متجذرة، وطول في الإجراءات والعمليات أثرت في فاعلية أداء الأجهزة الحكومية.
ــ ضعف الرقابة الفاعلة على الأجهزة الحكومية وموظفيها والتركيز فقط على اكتشاف الخلل بصورة جزئية من حيث بعض التسربات المالية أو بعض جوانب الخلل الوظيفي.
ــ ضعف مهارات العنصر البشري وضعف تأهيله وعدم الاستفادة من الطاقات المتوافرة، ما أدى إلى ظهور ما يسمى البطالة المقننة وانخفاض الإنتاجية.
ــ ضعف كفاءة وفاعلية النفقات العامة، وكثرة الفساد المالي، والافتقار إلى الوضوح والشفافية.
ــ العجز في إدارة بعض التوسعات الحكومية المتسارعة ذات التأثير المستقبلي الإيجابي في التنمية الوطنية، ما أدى إلى عدم إنجازها والانتفاع بما يتوقع منها، كمشاريع المدن الاقتصادية مثلا، التي لا تزال تراوح بين إتمام البنية التحتية والتغلب على معوقات البدء أصلاً.
كل ذلك أدى إلى تراكمات من الخلل الإداري عبر السنين تستحيل إزالته وعلاجه بمجرد حلول فردية أو منهجية جزئية أو من خلال فترة زمنية قصيرة، بل يحتاج إلى منظومة شاملة متكاملة من الاستراتيجيات والسياسات المبنية على النظم الإدارية الحديثة مع متابعة جادة وصادقة للتنفيذ والتقييم. إن التنمية الشاملة التي تشهدها المملكة في العقود الحالية تستدعي الاهتمام بتحسين أداء المنشآت الحكومية وتطويره، ومن أبرز الحلول المطروحة التي توجت بقرارات رسمية عملية قياس الأداء للأجهزة الحكومية، الذي ــ كما لا يخفى على القارئ الكريم ـــ تم إقراره من قبل مجلس الوزراء الموقر في الرابع من شهر رجب عام 1429 هـ، المؤدي إلى تأسيس مركز وطني مستقل لقياس الأداء يرتبط مباشرة بمجلس الوزراء في آخر مراحله.
والمتتبع لهذا المركز وجهود العمل نحو تأسيسه يلمح الملاحظات والتساؤلات المستحقة التالية:
أولاً: تأخر إطلاق المشروع الذي قارب السنوات الثلاث، حيث تم التصريح عدة مرات بأن معهد الإدارة العامة، وهو المسؤول عن تأسيس المركز في مرحلته الأولى، لا يزال يعكف على وضع الإجراءات النهائية للبدء في تنفيذه، على الرغم من أن معهد الإدارة أعلن إنجاز مشروع نظام قياس أداء الأجهزة الحكومية منذ عام 2006! (''الاقتصادية'' 4 أبريل 2006 ، و''الشرق الأوسط'' 5 ربيـع الأول 1427 هـ، و''المدينة'' 3/4/2006). كما أن الدكتور أسامة فقيه رئيس ديوان المراقبة العامة صرح خلال افتتاح ندوة قياس الأداء في الأجهزة الحكومية التي نظمها معهد الإدارة العامة بأن الديوان ووزارة الاقتصاد والتخطيط ومعهد الإدارة ووزارة المالية شكلت لجنة قبل ست سنوات لوضع الخطوط العريضة للقياس. كذلك أكد الدكتور عبد الرحمن الشقاوي مدير معهد الإدارة (''الشرق الأوسط'' 12 ذو القعـدة 1429 هـ) أن المركز سيبدأ العمل مطلع عام 2009، بينما أكد في مجلة ''التنمية الإدارية'' الصادرة عن المعهد (العدد 81 ربيع الآخر 1432هـ) أن مركز القياس لأداء الأجهزة الحكومية سيبدأ عمله خلال شهر شوال من العام الحالي .. فمتى يا ترى سيرى المركز النور؟ هذا ما ننتظره ونتمناه.
ثانياً: لم تتضح الصورة بعد في ماهية المنهجية المتبعة في قياس الأداء الحكومي. هل ستستخدم منظومة شاملة لذلك أم أنه سيكتفى باستخدام أداة قياس غير متكاملة؟ وهذا ما أخشاه ويخشاه كثير من المختصين بأن يتم بعد هذا الوقت الطويل تبني منهجية غير متكاملة لقياس الأداء لا يمكن أن تؤدي إلى الهدف المنشود منها كالاعتماد والتركيز على بطاقة الأداء المتوازن بصورتها الحالية مثلا، كما يفهم من تركيز الدكتور مشبب القحطاني مدير عام مركز قياس الأداء للأجهزة الحكومية في معهد الإدارة العامة عليها في ورقته التي قدمها في الندوة المذكورة آنفا، وكذلك بما يفهم من تصريحات الدكتور الشقاوي في غير ما موضع.
ثالثاً: على الرغم من صدور عديد من التصريحات الرسمية من مدير المعهد عن مركز القياس، والتطرق للمركز في الندوة المشار إليها سابقاً وفي المؤتمر الدولي للتنمية الإدارية الذي نظمه المعهد العام الماضي بمناسبة مرور 50 عاماً على إنشائه، إلا أنه لم تتضح الصورة بعد عن ما هي المهام الرئيسة للمركز وما دوره بالضبط؟ هل دوره رقابي بحت، وبالتالي تكرار لديوان المراقبة العامة؟ هل سيكون له دور توعوي تعليمي مع الدور الرقابي؟ وما طبيعة هذا الدور؟ وكيف ستتم عملية القياس .. هل سيكتفي بمجرد مرور بعض العاملين للأجهزة الحكومية والتقاط بعض المعلومات لمؤشرات مكررة وبطريقة غير احترافية وإن كانت بصورة آلية؟! أم ماذا؟ إن التضارب في التصريحات التي تم رصدها من بعد صدور القرار الوزاري إلى الفترة الحالية سببت الكثير من اللبس لدى المراقبين ــ على الأقل بالنسبة لي ــ فيما سبق، ومن التصريحات ما يلي:
ــ أجرت صحيفة ''الشرق الأوسط'' بتاريخ 12 ذي القعـدة 1429 هـ مقابلة تضمنت ما يلي:
ــ استبعد مدير عام معهد الإدارة العامة أن ترفع التقارير التي يخلص لها مركز قياس أداء الأجهزة الحكومية للمقام السامي.
ـــ وأكد أن المركز لن يكون جهة رقابية، بل أداة لمساعدة المسؤول الأول عن الجهة الحكومية على معرفة مدى التقدم أو التأخر في الأعمال داخلها، وسيضطلع بقياس فاعلية الأجهزة الحكومية من خلال الكشف عن جودة الخدمة التي تقدمها، كذلك إجراء المقارنة بين أداء فروع الجهاز الحكومي من حيث الإنتاجية والأجهزة الحكومية وأجهزة مماثلة في النشاط في دول أخرى، وإعداد التقارير عن أداء الأجهزة الحكومية المستفيدة.
ــ أكد أن الزيارات الميدانية التي سينفذها موظفو المركز ليست للمركز الرئيس للجهاز الحكومي فقط، بل حتى الفروع، لذا سيجوب موظفو المركز المناطق كافة، وستكون هناك فرق ميدانية لديها معايير ومؤشرات وتأخذ المعلومات وتقيس عليها، مع الإشارة إلى وجود خطط مستقبلية ليكون العمل آليا وإلكترونيا من الجهات الحكومية نفسها.
ــ صرح الدكتور عبد الرحمن بأن هناك ثلاث شركات عالمية نفاضل بينها للاستعانة بها عند انطلاقة المشروع، لما تملكه من خبرة واسعة في هذا المجال بعد أن ساعدت عددا من الدول على قياس الأداء (''الاقتصادية'' 8/6/1431 هـ).
ــ في سبيل تأسيس فاعل للمركز قام المعهد بالاطلاع على عدد من التجارب الدولية في مجال قياس الأداء الحكومي وعلى أحدث الأساليب العلمية والتقنية في هذا المجال، حيث تم تكليف فريق من المختصين في المعهد بزيارات لكل من هولندا وكندا والولايات المتحدة وسنغافورة وأستراليا والإمارات (''الرياض'' 29/6/1431 هـ).
إن مركز قياس الأداء تأخر تدشينه وإطلاقه كثيراً في مرحلته الأولى التنظيرية التي تعتمد على مجرد تحديد المؤشرات والمعايير والمنهجية التي سيتم اتباعها، بينما المرحلة الأصعب والتحدي الأكبر للمركز هي المرحلة التنفيذية التي ستواجه العديد من العقبات الكبيرة من ضعف القدرات وحداثة الخبرات والتعارض والتداخل الرئيس مع مهام الأجهزة الرقابية الأخرى، لذا لا بد من تحديد المسار الاستراتيجي له وبدقة منذ المرحلة الأولى وبمشاركة جميع الأطراف الأخرى ذات الخبرة العملية من القطاعين الخاص والعام والجمعيات المهنية المختصة، وإلا فأخشى أن يفقد مركز قياس الأداء للأجهزة الحكومية تأثيره الإيجابي المتوقع منه قبل أن يولد، أو أن يصبح مجرد أحلام تتبخر مع صخرة الواقع الذي لم يحدد حقيقته بدقة ولم ترسم استراتيجيات التعامل معه، فيصبح يدور في حلقة مفرغة لا نهاية لها، خاصةً أن قياس الأداء ليس هدفاً منشوداً بذاته إنما هو وسيلة لتحسين وتطوير أداء مؤسسات القطاع الحكومي، الذي يعتبر المشكلة الأساسية. إن قياس الأداء للأجهزة الحكومية لم يعد يحتمل كل هذا التأخير، وإذا أردنا له النجاح فلا بد أن يرتكز على أنظمة التميُّز المؤسسي الشاملة من خلال تطبيق معايير جوائز الجودة والتميُّز المؤسسي كجائزة الملك عبد العزيز للجودة وفق برنامج منظم ومركّز ينشر ثقافة التميُّز المؤسسي ويرعى تطبيقها بصورة سليمة مع متابعة جادة وحقيقية للتنفيذ والتطوير، مع أهمية الاستفادة المباشرة والفعلية من الطاقات الوطنية الكبيرة في هذا المجال التي أصبح لها تأثير إقليمي وعالمي ــ ولله الحمد والمنة ــ والاستفادة من البرامج المماثلة لدى الأشقاء في بعض الدول الخليجية مثل برنامج البحرين لقياس الأداء الحكومي.
وأخيراً وليس آخراً.. على الرغم من أن قياس الأداء المؤسسي يعتبر تحديا كبيرا لأنه عبارة عن منظومة متكاملة ومعقدة بسبب تداخل عناصر وأبعاد قياس الأداء المختلفة وسعة مجال التطبيق الذي يضم المنشأة والوحدات التنظيمية التابعة لها والأفراد العاملين فيها مع تأثرها بعوامل اقتصادية واجتماعية وثقافية أخرى، إلا أن بلادنا العزيزة وبتوفيق من الله ثم بدعم ولاة الأمر ـــ حفظهم الله ـــ قادرة على أن تنجح في هذه المهمة الكبيرة وتصبح أنموذجاً يحتذى به ــ بإذن الله تعالى.