الشعير.. لا بد من شركة مساهمة

الآلية التي أعلنت عنها الحكومة في الآونة الأخيرة للتعامل مع ملف الشعير تستحق تسليط الضوء عليها لما تشكله من نقلة نوعية في الجهود الرامية لتنظيم تجارة تلك السلعة التي تعد الغذاء الأساس للثروة الحيوانية في المملكة، وتستمد تلك الآلية أهميتها من أن أي نقص في إمدادات الشعير أو ارتفاع في أسعاره مدعاة للقلق لما لذلك من تداعيات اقتصادية واجتماعية تلقي بظلالها على شرائح عريضة من المجتمع. فعلى الرغم من الأوامر السامية وقرارات مجلس الوزراء الصادرة خلال الـ35 عاما التي مضت لتنظيم سلعة الشعير، لا يزال ذلك الملف يبدو عصيا على السيطرة والانضباط، وهو ما تشهد به التقارير التي تطالعنا بها الصحف المحلية بشكل يكاد لا ينقطع في كل أسبوع. من بين آخر تلك التقارير ما نشرته جريدة ''الرياض'' في ملحقها الاقتصادي بتاريخ 25/5/1432هـ تحت عنوان ''تصاعد أزمة الشعير في السوق المحلية ومطالب بتطويق الاحتكار وارتفاع الأسعار''.
هناك عوامل عدة تسهم في تعقيد ملف الشعير، من بينها أن الإمدادات والأسعار مرتبطة بسوق عالمية تكاد تشبه التجمع الاحتكاري ''الكارتيل'' تعمل بعيداً عن سيطرة الدول المستهلكة ومن بينها المملكة التي تبلغ حصتها بمفردها من تلك السوق نحو 40 في المائة تقريباً ما يضعها هدفاً سهلاً للاستغلال بأشكاله بالرغم من التباعد الجغرافي بين المصادر الرئيسة لإنتاج الشعير وهي أستراليا، أوروبا الغربية، وأمريكا الشمالية. لكن العامل الأهم في تعقيد ملف الشعير هو نشوء ممارسات احتكارية أيضاً في السوق المحلية نمت خلال السنوات القليلة الماضية بشكل لافت للنظر، ما أدى إلى خلق أجواء من عدم الاستقرار أضرت بمربي الماشية رغم المبالغ الكبيرة من الإعانات التي تضخها الحكومة للسيطرة على الأسعار. إذ خلافا لما يتوقعه المرء في سوق كبيرة يبلغ حجمها نحو (7) ملايين طن سنويا، ما يجعل الشعير يحتل المرتبة الأولى بين واردات المملكة، يسيطر على تلك السوق عدد محدود من التجار من بينهم شركة واحدة فقط تشكل حصتها نحو نسبة 60 في المائة!
في ضوء تلك المعطيات قررت الحكومة التعامل مع ملف الشعير من خلال مسارين مستقلين، أولهما السماح للتجار بالاستمرار في الاستيراد على أن يلتزموا بما تحدده وزارة المالية بالنسبة للسعر والكمية ''لضمان عدم استغلال خزانة الدولة من قبل بيوت التجارة العالمية والمتعاونين معها'' حسبما جاء في بيان الوزارة الذي نشرته ''الاقتصادية'' في 23/5/1432هـ. أما المسار الثاني الذي كشفت عنه الوزارة، ويعد نقلة جديدة، فهو اعتماد أسلوب الاستيراد المباشر من قبل الحكومة، وإسناد التوزيع للقطاع الخاص والجمعيات التعاونية تحت رقابة وإشراف الوزارة. كما جاء في ذلك البيان أن الوزارة نجحت من خلال تلك الترتيبات في تخفيض تكلفة الطن المستورد.
بالطبع برزت شكاوى في السوق مع بدء تطبيق تلك الترتيبات الجديدة ولا سيما فيما يخص كفاية شبكة التوزيع، وهي مرحلة انتقالية من المتوقع تخطيها قريبا من خلال زيادة مراكز التعبئة في مختلف مناطق المملكة بالتنسيق مع بعض المستوردين.
تلك الترتيبات التي تبنتها الحكومة للتعامل مع ملف الشعير، وإن كانت تحمل الكثير من الإيجابيات، إلا أنها لا تشكل في رأينا آلية مستدامة يمكن توظيفها على المدى الطويل في إعادة هيكلة سوق الأعلاف وتنويع مصادرها على نحو يجعلنا أكثر اطمئناناً على مستقبل الثروة الحيوانية في المملكة. إذ ليس من طبيعة عمل الحكومة أن تمارس ما قد يعد عملا تجاريا، كما أنه ليس من المصلحة أن تُترك مسؤولية إدارة ذلك الملف الاستراتيجي في أيدي عدد محدود من التجار. لذلك قد ترى الحكومة أن الوقت قد حان لإسناد مسؤولية ملف الشعير إلى جهة واحدة تعمل وفق أسس تجارية بدعم من الحكومة وتحت نظرها، على أن تشمل مسؤولية تلك الجهة، إلى جانب استيراد الشعير وتوزيعه، استيراد الأعلاف الأخرى، الاستثمار في المشروعات الزراعية المنتجة للأعلاف في الخارج، والمشاركة في ملكية الشركات المتخصصة في تجارة نقل وتوزيع المحاصيل الزراعية في الأسواق العالمية.
ذلك التصور لإدارة ملف الشعير والأعلاف بأنواعها على المدى الطويل يمكن تحقيقه بإنشاء شركة مساهمة عامة بين الحكومة (صندوق الاستثمارات العامة) وبين الجمهور، على أن تكون أغلبية الملكية للمواطنين مع وضع ضوابط كافية في نظامها لمنع تركيز ملكيتها في عدد محدود من الأفراد أو تسلط أي من المساهمين على قراراتها. وأحسب أن الشركة القابضة التي نص عليها قرار مجلس الوزراء الصادر في 30/4/1429هـ ضمن استراتيجية الأمن الغذائي تشكل خياراً جيدا لإطلاق عمل تلك الشركة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي