هيئة السوق والتفويضات

كتبت مقالا في ''الاقتصادية'' بتاريخ 5/3/1432هـ عن جوانب مما يعانيه المواطن في بعض المواقف عند استخدام الوكالات الشرعية، والتي باتت من ضرورات الحياة في عصرنا الحاضر. تلك المواقف يواجهها المرء على الرغم من الإجراءات الميسرة التي وضعتها وزارة العدل لإصدار الوكالات بأسلوب آلي دقيق. إذ إن كثيرا من الجهات، التي تتطلب مراجعتها إبراز وكالة شرعية، لا تقبل النص العام الموحد لتلك الوكالات، بل تصر على تضمينها عبارات محددة خاصة بها بما يفضي في النهاية إلى أن تصبح الوكالة أشبه بكشكول. ليس ذلك فحسب، بل يجد المرء نفسه مضطرا لمراجعة كتابة العدل لإصدار وكالة جديدة كلما راق لجهة ما إضافة نص في الوكالة حتى إن كان مشمولا أصلا في النص العام الموحد.
في المقابل، وهو ما يحمد لمؤسسة النقد العربي السعودي، يتمتع عملاء المصارف بمرونة في آلية التوكيل فيما يخص حساباتهم، إذ أتاحت لهم المؤسسة إلى جانب خيار الوكالة الشرعية خيارا بديلا وهو الحضور شخصيا إلى المصرف وتوقيع نماذج تفويض موحدة معدة سلفا لذلك الغرض بعبارات قانونية دقيقة تحفظ حقوق جميع الأطراف. لا شك أن هناك مزايا كثيرة للخيار الثاني من منظور التيسير، من بينها انتشار فروع المصارف، ساعات عمل مريحة للعملاء، صالات رحبة لاستقبالهم وإنجاز أعمالهم سواء كان ذلك في أقسام الرجال أو النساء، والأهم من ذلك كله أن احتمال التزوير في تلك الآلية للتوكيل أمر غير وارد طالما أن الموكل هو صاحب حساب له تواقيع معتمدة في المصرف.
ومن بين المزايا الأخرى لتوقيع نموذج التفويض في البنك أنه يمكن تفصيل نطاق التفويض (التوكيل) بمفردات واصطلاحات متعارف عليها في القطاع المصرفي تضع سقفا وضوابط واضحة لتلك الوكالة درءا لأسباب الخلاف التي قد تنشأ نتيجة تقديم أو تأخير عبارة ما في النص. ثم هناك ميزة أخرى تبرز أهميتها عند الرغبة في إلغاء الوكالة. فإن كانت الوكالة صادرة عن كتابة العدل وظهرت الحاجة إلى إلغائها، فلا بد في تلك الحال التهميش على السجلات هناك، وربما يتطلب الأمر إشعار العموم بذلك الإلغاء عن طريق الإعلان في الصحف وهو ما قد يتيح نافذة زمنية كافية لإساءة استخدام الوكالة من قبل الوكيل المخلوع. بينما إلغاء التفويض المعتمد من قبل المصرف يتم عادة بشكل فوري وحاسم.
تلك المرونة في اختيار آلية التوكيل (خيار الوكالة الشرعية أو خيار التفويض) كانت متاحة للجمهور إلى عهد قريب ليس في الحسابات المصرفية فحسب، بل أيضا في عمليات تداول الأسهم وإدارة المحافظ الاستثمارية عندما كانت تحت إشراف مؤسسة النقد العربي السعودي قبل أن تباشر هيئة السوق المالية مهامها. لكن يبدو أن بعض المتعاملين في الأسهم أساء استخدام تلك المرونة، وانطلق في فتح وإدارة مئات المحافظ يمنة ويسرة تحت غطاء التفويضات من آخرين لأغراض المضاربة وإرباك السوق. ومن ثم رأت هيئة السوق المالية التصدي لذلك العبث، وصدر عنها تعميم برقم 402، في 26/7/1426 لتنظيم وكالات إدارة المحافظ الاستثمارية.
كان من بين أبرز البنود في ذلك التعميم هو ''إيقاف قبول أي تفويضات على المحافظ الاستثمارية لأي حساب ولصالح أي عميل''، واستمرار العمل بالوكالات الشرعية بشروط منها أن يكون الوكيل أصيلا، وألا يتجاوز عدد الوكالات ثلاث وكالات شرعية كحد أعلى على مستوى السوق ما لم يكن الوكيل من أقارب الموكل من الدرجة الأولى.
لا شك أن ذلك الإجراء من قبل هيئة السوق المالية كان له أثر كبير في ضبط السوق في بداياتها الأولى. غير أن ظروف السوق اليوم تختلف بشكل يكاد يكون جذريا عما كانت عليه قبل ستة أعوام عندما صدر ذلك التعميم ما يدعو إلى إعادة النظر في قرار عدم قبول التفويضات لإدارة المحافظ الاستثمارية. إذ تتمتع السوق اليوم بأدوات تقنية تحقق لها رقابة متطورة قادرة على ضبط وكشف أية تجاوزات فور حدوثها، كما تمتلك الهيئة أدوات قانونية كفيلة بردع أي تلاعب مهما كان غطاؤه. كما أن حصر التداول في السوق عبر شركات الوساطة المرخصة فقط يوفر ضمانات أخرى ضد أي اختراقات محتملة في إدارة المحافظ.
إن المرحلة التي وصلت إليها السوق المالية في المملكة اليوم من انضباط تنظيمي وتقني تسمح بقبول آلية التفويضات لإدارة المحافظ الاستثمارية، ومن ثم نتطلع لهيئة السوق بإطلاق ذلك الخيار من التوكيل حتى إن تم تقييده بأن يكون الوكيل من أقارب الموكل من الدرجة الأولى، إذ يظل في تلك الخطوة تيسير على شريحة كبيرة من المتعاملين في السوق.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي