الإسراف.. ملف أهمله المجتمع
من بين القرارات التي صدرت في الآونة الأخيرة وتستحق تسليط مزيد من الضوء عليها، كان أمر خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز بتكوين لجنة على مستوى رفيع من وزارات الداخلية، الشؤون الإسلامية، التربية والتعليم، الثقافة والإعلام، الصحة، والتجارة والصناعة، لتوعية المستهلك بمضار الإسراف. ذلك أن الإسراف يعد من أخطر السلوكيات الضارة التي استوطنت في المجتمع السعودي منذ السبعينيات من القرن الميلادي المنصرم نتيجة القفزة الكبيرة في دخل البترول، وهي الفترة التي أُطلق عليها فيما بعد اسم ''الطفرة الأولى''، إذ أفضت تلك الزيادة في الدخل إلى انفلات مفاجئ وسريع في معدلات استهلاك الفرد للمواد الغذائية، الملابس، والسلع الاستهلاكية الأخرى، كالأجهزة المنزلية والسيارات وغيرها، إلى حد أنها فاقت أعلى المعدلات المسجلة عالميا، وأصبح المواطن السعودي يحتل مراكز متقدمة، إن لم تكن الأولى، في استهلاك الطاقة، المياه، الدواء، والمواد الغذائية، خاصة الأرز، القمح، السكر، اللحوم، والقائمة تطول.
ومن المؤسف أن الإسراف لم يعد حكراً على طبقة الأثرياء في المجتمع فحسب، بل أصبح مسلكا شائعا بين كل الطبقات فقيرها وغنيها من الحاضر والباد. ولعل استفحال ذلك السلوك على مدى الأربعين سنة الماضية مرده أن أفراد المجتمع تكاسلوا في التصدي له ولم يتناهوا عنه على الرغم من فداحة الأذى الذي يتسبب فيه لكل مفاصل الحياة الصحية، الاقتصادية، والاجتماعية. ولو أن موقف المجتمع من قضية الإسراف كان موقف المتفرج فقط، لربما التمس المرء عذرا لذلك الموقف. لكن ما يدعو للحيرة حقاً أن التبذير أصبح من القيم التي يعليها المجتمع ويدرجها تحت عادات الكرم، الوجاهة، وإظهار النعمة! وما يدعو للحيرة أيضاً أن الإسراف أصبح صفة ملازمة للإنسان السعودي يُعرف بها، وسمة يكاد ينفرد بها عن الآخرين في غربته. وإن كان من تفسير لتلك الحيرة فهو الانفصام المذهل بين السلوك الذي يمارسه ذلك الإنسان والإرث الإسلامي الذي يفخر بانتمائه إليه.
إن النهي عن الإسراف نصت عليه آيات كثيرة في القرآن الكريم، سواء كان ذلك الإسراف معنويا أو ماديا. وكذلك الشأن في الأحاديث النبوية وسيرة المصطفى ــ عليه الصلاة والسلام. فالخطاب في الدين الحنيف يدعو دائما إلى الاعتدال في إنفاق المال، والمأكل والمشرب. ذلك الخطاب كان إلى الأمس القريب، قبيل الطفرة الأولى، حاكما لأسلوب معيشة مجتمعنا، إذ كانت ''المقاضي''، ما يبتاعه رب البيت من مواد غذائية، على قدر الحاجة، وما قد يزيد من وجبة الغداء يحفظ جانبا لليوم الذي يليه على الرغم من عدم وجود برادات أو غيرها من الوسائل الحديثة لحفظ الطعام. ذلك الجانب من السلوك في المعيشة يلخص لنا بعض معالم الطريق التي ينبغي أن ندعو المجتمع للعودة إليها.
في مجتمع الأمس كانت السمنة من الحالات النادرة، وكان السمين موضوعا للسخرية والتفكه، بينما اليوم أصبح النحيف مادة للتندر والتعليقات الجارحة. ولو أن قضية السمنة توقفت عند حد الفكاهة والضحك لهان الأمر، لكنها باتت مصدرا رئيساً للأمراض المزمنة من سكري، قلب، كلى، مخ، عيون، وغيرها. وما ينبّه بقوة ووضوح إلى المخاطر الصحية للإسراف في الطعام، هي النسبة العالية التي نشرتها بعض الصحف في الآونة الأخيرة للمصابين في المملكة بمرض السكري التي بلغت نحو 30 في المائة من مجموع السكان.
ثم هناك الآثار الضارة التي يخلّفها الإسراف على البيئة. فبينما نشاهد اليوم الجور الذي يقع من المجتمع على بيئته، كان مجتمع الأمس رؤوفا بها. فلم تكن هناك مخلفات تذكر، بل كان هناك توازن محمود بين المدخلات والمخرجات، وما زاد كان يُجفف أو يقدم طعاما للبهائم. لذا كان من غير المألوف أن تشاهد حاوية للزبالة أو المهملات في الطرقات أو إلى جوار المساجد أو الأماكن الأخرى العامة كما هو الحال عليه اليوم.
لا أحسب أن أحداً يستسهل المهمة الملقاة على عاتق اللجنة المكلفة بتوعية المجتمع بمضار الإسراف، إذ إن تغيير سلوكيات المجتمع مهمة شاقة تحتاج إلى وقت طويل والكثير من الصبر. وكنت قد تناولت في مقال نشرته ''الاقتصادية'' في 29/8/1431هـ بعض الآليات التي قد تستحق النظر عند تناول ملف الإسراف. ولعل من أولى العقبات التي قد تواجهها اللجنة في تبليغ رسالتها، هي أن الطرف المعني بها وهو ''البيت'' في المجتمع السعودي لم يعد تحت إدارة أصحابه، بل انتقلت تلك الإدارة منذ ''الطفرة الأولى'' إلى الخادمات والسائقين، وباتوا هم أصحاب القرار فيما يخص المشتريات والمطبخ وغير ذلك من شؤون العائلة.
لكن في المقابل هناك عوامل أخرى تصب في صالح مهمة اللجنة إذا أحسنت التعامل مع ملف ''الإسراف''، إذ إن بين يديها الكثير من الحقائق العلمية والمعطيات الاقتصادية التي تدعم رسالتها عن المهالك التي تنتظر المجتمع إذا لم يبادر إلى تقويم سلوكه بالتخلص تدريجيا من السفه والتبذير. على أن نجاح تلك المهمة لا بد له من قدوة حسنة من بين العلماء وقادة الفكر تحفز الآخرين على محاكاتهم ومجاراتهم.