كارثة اليابان.. دعونا نتعلم منها

لا شك أن الأضرار والخسائر البشرية والمادية التي أصابت الشعب الياباني يوم الجمعة الماضي تدعو جميع الشعوب إلى الوقوف معه ومواساته في محنته، ذلك أن ما نقلته قنوات التلفزيون الفضائية من صور مباشرة لآلاف من الناس وهم يواجهون قدرهم في تلك الكارثة كان مؤلماً، على رغم ما عرف عن دولة اليابان من تفوق في إجراءات السلامة والتحوط للزلازل عبر تاريخ طويل من الخبرة في التعامل معها. ولعل من حسن الحظ أن مركز الزلزال الذي تولد منه التسونامي المدمر كان يقع بعيداً عن اليابسة بأكثر من 130 كيلو متراً، وإلا لكانت الخسائر أضعافاً مضاعفة.
لم تقتصر الخسائر على الأرواح أو المنازل فحسب، بل شملت منشآت حيوية كمحطات توليد الكهرباء من الطاقة النووية، المصافي، شبكة القطارات، الاتصالات، الموانئ، والطرق، وغيرها، أي أن ذلك الجزء من اليابان، وهو الساحل الشمالي الشرقي، بات محطماً مشلولاً جراء زائر فعل فعلته في لمح البصر في رابعة النهار على مرأى من العالم أجمع. ولعل من حسن الحظ أيضا أن الشق الأكبر من الدمار نزل بساحة تلك المنطقة المنكوبة قبل أن يسدل الليل عليها ستاره. ذلك التوقيت من النهار كان عوناً لفرق الإنقاذ والمصابين في تدبر أمرهم، ما أسهم في تقليص حجم الخسائر وأعداد المفقودين، ولا سيما أن معظم الخدمات العامة تعطلت وعلى رأسها الكهرباء والمواصلات. إذ كان لا بد من غلق المفاعلات النووية المولدة للكهرباء كإجراء احترازي بعدما لوحظ من بوادر خلل في مستويات المياه الضرورية لتبريد تلك المفاعلات.
إن تعامل الحكومة اليابانية ومؤسساتها والهيئات الأخرى غير الحكومية، مع تلك الكارثة يشكل تجربة قّيمة تستحق الدراسة والإفادة منها. إذ يبدو أنه لا أحد اليوم بمنأى عن تلك الكوارث الطبيعية، وكارثة سيول جدة في هذا العام وما سبقه ليست عنا ببعيد. لكن ما يعطي كارثة اليابان بعداً أوسع، مقارنة بكثير من الكوارث المماثلة في مناطق أخرى من العالم، هو وجود مفاعلات نووية ومجمعات صناعية ضخمة في دائرة الحدث. وهو مشهد بدأ يتشكل ما يشابهه في بعض مناطق المملكة، بل يمكن القول إننا نرى اليوم نماذج لهذه الصروح الصناعية في كل من الجبيل، رأس الزور، ينبع، ورابغ. وعما قريب سينضم ـــ بإذن الله ـــ إلى تلك الباقة من المشروعات المميزة بعض المفاعلات النووية لتوليد الكهرباء، في مواقع لم يعلن عنها بعد، ضمن برنامج تطوير مصادر طاقة بديلة.
كنت قد تناولت موضوع سلامة المشروعات الحيوية في مقال نشرته ''الاقتصادية'' في 1/5/1429هـ دعوت فيه إلى المبادرة إلى حجز الأراضي اللازمة لبناء مفاعلات توليد الكهرباء بالطاقة النووية قبل أن تتداخل مع ملكيات خاصة أو مشروعات أخرى، إذ إن تلك المواقع ينبغي اختيارها بعناية تراعي جودة التربة، البعد عن المسارات التاريخية المعروفة للزلازل، القرب من مصادر مياه كافية للتبريد، البعد عن التجمعات السكانية، والابتعاد بقدر الإمكان عن مصادر الخطر الإقليمية المجاورة. وفي مقال آخر نشرته أيضا ''الاقتصادية'' في 25/12/1429هـ حول أهمية دراسة المخاطر المحتملة المرتبطة بالمواقع المتاحة للمشروعات الاستراتيجية العملاقة، سواء كانت ملكيتها للحكومة أو القطاع الخاص، دعوت فيه إلى تبني خطة وطنية تضع معايير ومنهجية موحدة يمكن في إطارها تقويم كل حالة على حدة. ذلك أن الهدف من تلك الدراسة في نهاية المطاف ليس تقليص المخاطر المحتملة لكل مشروع بشكل منفرد فحسب، إنما توزيع تلك المخاطر المحتملة للاستثمارات في مجموعها على مستوى المملكة.
إن الإفادة من التجربة اليابانية لها وجوه كثيرة، من أهمها بالطبع هو معرفة الاحتياطات الهندسية واللوجستية من معدات وتجهيزات رديفة توافرت في تلك المنشآت والبيئة المحيطة بها تحسباً للزلازل والأعاصير وغيرها. ثم هناك جانب الاستعدادات وخطط الاستجابة، وتقويم فاعليتها في ضوء ما يتم حصره من خسائر وأضرار. أما الوجه الآخر المهم للإفادة من تلك التجربة فهو الاطلاع على الجانب الوقائي أو المعايير التي يخضع لها قرار اختيار مواقع المشروعات الحيوية ذات البعد الاستراتيجي الوطني لتأمين أكبر قدر من ظروف السلامة لها في مواجهة الكوارث الطبيعية والمخاطر الجيوسياسية. وهنا لا بد من التنويه بأن الخيارات المتاحة لليابانيين قد تكون محدودة، مقارنة بتلك المتاحة للمملكة بسبب الفوارق في المساحة، الكثافة السكانية، والمناخ.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي