كود البناء وكود الثقافة

كانت اليابان إلى عهد قريب لا تتذوق القهوة مطلقا, وهم لا يزالون مولعين بشرب الشاي ولهم طقوس وطرق وأنواع مختلفة لشرب الشاي الأخضر, إذ هو مشروبهم المفضل، وحاولت إحدى الشركات أن تسوق للقهوة هناك لكنها منيت بخسارة كبيرة ذلك لأن اليابانيين لم يألفوا طعمها ولم يتعودوا شربها، وهم مع الشاي يصبحون ويمسون وهو يحتسون منه ولا يملونه أبدا، لكن واحدة من تلك الشركات استعانت بأحد المتخصصين لمحاولة فهم ذلك الأمر وفك شفرته, وبعد دراسته وجد أن من الصعب جدا أن يشرب اليابانيون غير الشاي وقد ألفوه سنين طويلة, لكنه استطاع أن يتجاوز ذلك الجيل ليعمل حلوى للصغار لها طعم القهوة ومذاقها وبعد أقل من عشر سنوات بدأ اليابانيون يتذوقون القهوة وأصبحت مبيعات القهوة بملايين الدولارات بعد أن كانت صفرا. هذه التجربة وغيرها نقلها كلوتير ربايلا في كتابه ''كود الثقافة'' The culture code.
تبدو الحياة كلها (كود) في عنوان البريد والهاتف الجوال ومشغل التلفزيون والكمبيوتر والإيميل والتكييف والسيارة وغير ذلك كلها تحتاج إلى كود، بل إنك بعد أن تدخل بطاقة الصرف الآلي لسحب أو إيداع مال من حسابك الشخصي يطلب منك جهاز الصرف الآلي قبل كل شيء أن تدخل رقم الكود الخاص بك حتى يفتح لك أسراره وتجول في حسابك صرفا وإيداعا، والكود يمكن أن يكون رقما أو أحرفا أو مفتاحا أو اشتراطات, والمؤكد أنه لا بد من استيعابها وفهمها وتذوقها كي تعمل وتصبح ذا أثر ومفعول في ذلك المجال، إذ إننا أصبحنا في كل شيء من أمورنا نتعامل مع الكود، وحين يفقد أو يضيع الكود يصبح من الصعوبة بمكان عمل أي شيء بشكل صحيح ولو كنا نعتقد أنه من الممكن ذلك.
وحين ندلف مع الكود إلى العمارة وكود البناء نجد أننا في الحقيقة نحتاج إلى حلوى كي نعرف ما هو كود البناء, وهل يمكن لنا أن نتذوق طعمه ونعيش مع تلك الاشتراطات والمبادئ التي هي أسس العمارة ونهجها الذي تسير عليه في كل مكان، وبالتأكيد لقد عاش الأجداد على كود بناء, لكنه لم يكتب, وأبدعوا في البناء وبنيت مدن وقرى بنسج عمراني متلاحم واشتراطات كانت موجودة في ذهن كل معلم للبناء وأستاذ، وهو يدرك مع كل لبنة يضعها أنها في مكانها الصحيح ستشكل مفردة عمرانية جميلة وهندسة متناغمة في كل عنصر معماري، تماما كما هو كود الشعر العربي قبل تدوينه، فقد كان الشعر يقال سليقة دون أي معرفة للأوزان والعروض, لكن لما اختلط العرب بالثقافات الأخرى لزم أن ينحى النحو وتكتب العروض وتعرف الأوزان حتى يعرف الطالب في أي بحر يشدو وفي أي اتجاه يسير, أي أنه كان لا بد من تأسيس كود للشعر يسار عليه.
والعمران وهو أحد الفنون التي نحتاج معها إلى دراسة متأنية لمعرفة كود البناء فيه, بل نحتاج إلى معرفة كود كل فراغ معماري في البيت, ومع التحضر السريع الذي جرى خلال العقود الماضية ربما نحتاج قبل كود البناء إلى معرفة كود الطعام وكود النوم وكود الجلوس وكود الاستقبال وكود دورات المياه ولنصل بعد ذلك إلى كود للبناء متكامل لكل فراغ من المنزل بدل أن نجلب كود بناء مستوردا لا طعم له ولا رائحة ولا مذاق.
يقول كلوتير: كود الطعام عند الأمريكيين هو تغذية الجسم كما تغذية الجهاز والسيارة بالوقود ولذا تجده حين يشعر بالشبع يقول I am full أنا ممتلئ, لذا نجحت الوجبات السريعة التي تقدم من السيارة وتملأ الفم بفتحه بشكل واسع، ولذا المطاعم هي كمحطات الوقود.
أما الفرنسيون والإيطاليون فكود الطعام يختلف تماما عن ذلك فهو استمتاع بالأكل والتلذذ بطعمه ومذاقه.
إن من المحزن أننا انتقلنا من كود العمران المحلي الجميل المترابط والمتكامل والمستدام إلى العمران بدون كود خلال الفترة السابقة, التي بنيت فيها معظم المدن ببناء خرساني يفتقد كودا, ما جعل تلك الأبنية لا تصمد كثيرا, فالأحياء التي بنيت خلال العقود الثلاثة الماضية ها هي اليوم تزال بالكلية كالفلل التي في حي الملز والعليا تزال اليوم وليس بسبب ضعفها وقلة متانتها, فالخرسانة أمتن بكثير من الطين، لكن يرجع السبب ـــ في نظري ـــ إلى أسباب كثيرة ليس أهمها عدم فهمنا كود الخرسانة، وأن شركات الأسمنت لم تصنع حلوى نتذوق بها طعم الخرسانة قبل البناء بها.
وتقود الهيئة العامة للسياحة اليوم بشكل رائع إعادة اكتشاف كود البناء في معظم أنحاء المملكة في تلمس لمعرفة الأنماط والعناصر المعمارية والأسس والقيم التي كان متبعة في عمران المدن, وهو جهد رائع في مجاله, لكن المؤمل ألا يكون ذلك الكود متحفا أو مزارا, بل المطلوب أن يصبح نهجا ونمطا نقدمه للعالم ونصدره كحلوى ليتذوقه العالم بدل أن ندعوهم إلى زيارة نزل أو متحف.
إن عمارة المسلمين, هي أعظم فن عمراني إنساني عرفه العالم وتذوقه في حواضر الإسلام السابقة في الأندلس حيث غرناطة والحمراء وإشبيلية وفي دمشق وبغداد, وهي اليوم شواهد لذلك الكود الفريد الذي نحاول اليوم اكتشافه.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي