الوكالات
من عادتي ألا أهدر وقتا في قراءة اللقاءات التي تجريها الصحف بين الحين والآخر مع بعض المسؤولين، إذ إن أغلبها لا يعدو كونه معلومات أرشيفية أو عبارات مكررة تعدها إدارات العلاقات العامة، مع صورة فوتوغرافية قديمة للمسؤول الأول عن ذلك الجهاز. غير أنني كسرت تلك القاعدة عندما طالعت ما نشرته جريدة ''الوطن'' في 14/2/1432هـ، على لسان وزير العدل الدكتور محمد بن عبد الكريم العيسى، تعليقا على حصول المملكة على المركز الأول عالميا في سرعة نقل الملكية. ذلك أنني لمست مصداقية في الحديث من مفرداته التي أتت مشابهة لأسلوب الوزير في مخاطبة الآخرين بعفوية ودون تكلف، وهو ما خرجت به من انطباع عندما استضافه في الصيف الماضي ''نادي كتاب الاقتصادية''.
غير أن الجانب الأهم في ذلك الحديث هو إحساس الوزير بقيمة ما تحقق من إنجاز وأثره في سمعة المملكة، والتوكيد على أن ذلك ليس إلا خطوة أولى ضمن مشروع خادم الحرمين الشريفين لتطوير مرفق القضاء. وهنا أود أن أشير إلى العلاقة الوثيقة بين كفاية الأداء في القضاء وثروة الوطن, التي سبق أن تناولتها في مقال نشرته ''الاقتصادية'' بتاريخ 13/5/1431هـ. إذ ذكرت أن جودة المنظومة القضائية بكل عناصرها لا تنعكس فقط على ما ألف الناس من مظالم أو خصومات تقليدية، بل تمتد آثارها إلى مفاصل أخرى حيوية كالتنمية الاقتصادية، الاستثمارات، وفرص العمل. فقد بينت بعض الدراسات أن هناك ارتباطا مباشرا يمكن قياسه بين جودة القوانين والنظام القضائي في بلد ما وبين القيمة الحقيقية للثروة في ذلك البلد. وقد ضربت واحدة من تلك الدراسات مثالاً على ذلك الترابط بدولار واحد يملكه شخص في دولة المكسيك، وما يطرأ من زيادة على قيمة ذلك الدولار أضعافاً مضاعفة بمجرد عبوره الحدود شمالاً إلى الولايات المتحدة، والسبب هو الفارق الشاسع بين القوانين والنظام القضائي في كل من البيئتين.
في ذلك السياق أود أن أطرح موضوع المعاناة غير المبررة, في رأينا، التي يواجهها المواطن فيما يخص الوكالات الشرعية، ولا سيما أنها باتت من ضرورات الحياة في عصرنا الحاضر. إذ لا بد للمرء، بالذات النساء، أن يوكل طرفا آخر يعينه على قضاء كثير من حاجياته التي تتطلب مراجعات لجهات رسمية حكومية كانت أو غيرها. تلك الحاجيات كان قضاؤها إلى عهد قريب أمراً ميسوراً لا يتطلب أكثر من مكالمة هاتفية أو ورقة تعريف من صاحب الحاجة. بينما اليوم أصبحت التعاملات أكثر تعقيدا، ومن ثم لم تعد العلاقات الشخصية كافية لإنجاز حاجة ما، إن لم يكن صاحب تلك الحاجة حاضرا بشخصه أو له وكيل يحمل وكالة شرعية صادرة من كتابة عدل، وهي إدارة مرتبطة بوزارة العدل.
لقد تنبهت وزارة العدل منذ سنوات لأهمية ذلك الدور الذي باتت تلعبه الوكالات الشرعية في تعاملات الناس، وضرورة التيسير عليهم (رجالا ونساء) في الحصول عليها. لذا وضعت نماذج موحدة للوكالات تم حفظها على أجهزة الحاسوب، بحيث لا يستغرق إصدار الوكالة سوى دقائق معدودة بما في ذلك تسجيل بيانات الموكل والوكيل. ومن المزايا الأخرى لذلك التنظيم وضوح نصوص الوكالات ودقتها مقارنة بما كان عليه العمل في الماضي من حروف متداخلة وشطب وتعديل عندما كانت تكتب يدويا. كما أن الحفظ الآلي للوكالات جعل الرجوع إلى سجلاتها مهمة سهلة وآمنة.
وجه المعاناة هنا أن كثيرا من الجهات التي تتطلب مراجعتها وكالة شرعية لا تقبل النص العام الموحد لتلك الوكالات، إنما تصر على تضمينها عبارات محددة خاصة بها، بما يفضي في النهاية إلى أن تصبح الوكالة أشبه بكشكول. ليس ذلك فحسب بل يضطر المرء إلى مراجعة كتابة العدل لإصدار وكالة جديدة كلما راق لجهة ما إضافة نص في الوكالة، حتى إن كان مشمولا أصلا في النص العام الموحد. فعلى سبيل المثال إذا صرفت لك إحدى الشركات المساهمة أرباحا بشيك يسلم عن طريق أحد البنوك لا يقبل البنك تسليم ذلك الشيك لوكيلك وإن كانت الوكالة تنص على ''استلام جميع المبالغ المستحقة طرف الغير'' بل لا بد من النص على ''استلام شيكات أرباح الشركات'' وكأن تلك الأرباح لا تدخل ضمن المصطلح العام لـ ''المستحقات لدى الغير''.
أما شركات الاتصالات فإنها تصر على أن ينص عليها في الوكالات بشكل منفرد، وأن يفرد نصا لاستلام الشرائح، وهكذا. وكذلك الحال عند مراجعة إدارة الجوازات، إذ لا بد من النص في الوكالة بشكل مفصل على ''استخراج الإقامات وتجديدها، وبدل التالف والفاقد وتأشيرات الخروج والعودة والنهائي ونقل الكفالة واستخراج شهادات المغادرة''، إلى آخره.
هناك شق آخر للتسهيلات التي أدخلتها وزارة العدل على موضوع الوكالات أن جعلت مفعولها ساريا ما لم تحدد مدتها أو تفسخ من أحد الطرفين أو يموت أحدهما أو ينتهي العمل الموكل فيها، إلا أن بعض الجهات ترمي بتلك الميزة أو المرونة جانبا، وتصر على عدم قبول الوكالة بعد انقضاء عام على صدورها.
كما أسلفت سابقا إن تلك الممارسات لا تنسجم مع أهداف مشروع خادم الحرمين لتطوير مرفق القضاء. وقد تستحسن وزارة العدل، ضمن جهودها للتيسير على المواطن، دراسة نصوص الوكالات التي تصدر عنها في الوقت الراهن لتوحيدها بالاتفاق مع الجهات المعنية بتلك الوكالات بما في ذلك مدة سريانها.