الأحوال المدنية والتميُّز في تقديم الخدمات للمواطنين
في الحقيقة لقد أصبح كثيرٌ من المواطنين محبطاً من ضعف جودة الخدمات التي تقدمها معظم الإدارات الحكومية في بلادنا الغالية، على الرغم من شتى الموارد المادية والبشرية التي تهيأت لها لتقديم الخدمات للمواطنين والمقيمين وتحقيق متطلباتهم.. حتى إن أحد أساتذتي في الجودة سألني بعد نشر مقالي ''الجودة والتميُّز في القطاع الحكومي.. لماذا؟ وكيف؟'' عن مدى وجود ممارسات للمنشآت الوطنية في القطاع الحكومي تتسم بتقديم الخدمات بجودة؟ وهل يوجد أمل في ذلك؟ وفي الحقيقة لم تكن الإجابة الدقيقة ماثلة في ذهني آنذاك! وإن كان النفي أقرب للإجابة! إلى أن قمت بعملية استخراج البطاقة الوطنية من الأحول المدنية في مدينة جدة من خلال تطبيق الإجراءات والخدمات الإلكترونية الجديدة التي تقدمها في عدد من فروع إدارة الأحوال المدنية في المملكة، حيث إني قمت بعمل حجز لموعد من خلال الموقع الإلكتروني الخاص بذلك، ومن ثم الذهاب للأحوال المدنية قبل الموعد بأكثر من نصف ساعة وأنا ما زلت شاكاً في الأمر نظراً لما لدي من الصورة الذهنية عنها من الازدحام الفظيع بالمراجعين في صالات الانتظار للحصول على الخدمة المطلوبة، حتى إن بعض المراجعين يأتي من قبل صلاة الفجر لأخذ رقم، ويضطر المراجع إلى الانتظار لساعات طويلة، ما يسبب تعطل مصالحه، أيضاً بطء إجراءات الخدمات وكثرة متطلباتها، ما أدى ويؤدي إلى التأجيل المستمر للقيام بإجراءات التجديد أو عملية إضافة أحد الأبناء مثلاً لفترات طويلة!
لكن ما رأيته واطلعت عليه من مظاهر التغيير في الأداء والتميُّز في تقديم الخدمات بصورة معاكسة وبزاوية 180 درجة عما سبق، جعلني أعجب وأفخر بهذا النموذج الوطني المتميِّز في تقديم خدمات حساسة ومهمة للمواطنين لم نعهدها قط ـــ للأسف ـــ من قطاع حكومي.. ولذلك وكمختص في إدارة الجودة وتطبيقاتها ـــ بفضل الله ـــ عندما أتحدث عن تجربة الأحوال المدنية إنما أتحدث عن تجربة عملية واقعية ذات ممارسات متميزة منذ أن تحجز موعدك إلى أن تتسلم الخدمة التي ترغب في عملها.. وهي تستحق أن نقف معها ونتجاذب أطراف الحديث عنها من خلال ذكر أبرز مظاهر تميُّز الخدمة للمواطنين كما يلي:
1.النجاح الواضح في إدارة التغيير في بيئة القطاع الحكومي, حيث نجح المسؤولون في تغيير تفكير وممارسات العاملين بصورة غير مألوفة في القطاع الحكومي، فقد تغيَّر الموظفون من حال الكسل والتراخي في تقديم الخدمات إلى السرعة والحيوية والمرونة، ومن التذمر والانزعاج في أثناء أداء المهام إلى الابتسامة والسرور البادية على وجوههم عند خدمة المستفيد، ومن كثرة الأخطاء وتكرارها إلى جودة الخدمة وتوكيدها، ومن عدم الاهتمام برضا المستفيد إلى الحرص التام على تحقيق طلباته والوصول إلى رضاه, ولا أشك أن دلالة هذه المؤشرات تظهر كذلك النجاح في التغلب على مقاومة التغيير ونجاحهم في التعامل معها.
2.التطبيق العملي الفاعل لجانب مهم من ممارسات الحكومة الإلكترونية, حيث إنه ينبغي على المواطن الراغب في الحصول على خدمات الأحوال المدنية القيام بعمل حجز موعد من خلال الموقع الإلكتروني بعد اختيار الخدمة التي يرغب في تنفيذها, وكذلك اختيار الفرع الذي يناسبه, وهذا النجاح في تطبيق الممارسات الإلكترونية يبدو أنه من خلال مبادرة وجهود ذاتية مشكورة للوزارة والقائمين عليها، مع ربطها بالمركز الوطني للمعلومات يقوم بتقديم الخدمات الإلكترونية لقطاعات الوزارة المختلفة التي تشمل الأحوال المدنية والجوازات والمرور.
3.النزول إلى واقع المواطنين وتسهيل عملية الوصول إليهم, فالأحوال المدنية وبصورة إبداعية لم نعهدها من قبل من القطاع الحكومي إلا بصورة جزئية من قبل إدارة الجوازات, قامت بفتح فروع في الأسواق المشهورة لكل مدينة لتقوم بتقديم الخدمات للمواطنين, ما أدى إلى تمكين المستفيدين من الوصول إليها وبصورة مريحة ورائعة، كذلك قامت مشكورة بتمديد ساعات الدوام مبدئياً من الثامنة صباحاً حتى الساعة الخامسة عصراً؛ ليتسنى لجميع المواطنين بشتى أعمالهم وارتباطهم أن يختاروا الوقت المناسب لهم، ويبدو أن الأحوال المدنية تخطط للقيام بتقديم خدماتها للمواطنين على مدار الأربع والعشرين ساعة في اليوم من خلال ثلاث ورديات كما يظهر ذلك في الموقع الإلكتروني.
4.التعامل مع قياس الأداء بصورة رائعة وعملية, فمن خلال تحدثي مع مدير ''أحوال جدة'' اتضح لي أنهم قاموا بتحديد العديد من مؤشرات الأداء وقياسها بصورة دورية وبدقة من أهمها:
أ.معدل وقت تنفيذ خدمة المستفيد منذ وصوله وحصوله على الرقم التسلسلي له حتى تنفيذ وأداء الخدمة التي يرغب في الحصول عليها.
ب.المعدل العام للإنتاجية خلال الساعة الواحدة, حيث تم تحديد مستهدف لذلك بـ50 خدمة، ووصلت نسبة التحقيق إلى 90 في المائة.
ج.معدل إنتاجية كل موظف, الذي بدوره يؤثر في تقييمه وتحفيزه بالدوام الإضافي.
د.نسبة تنفيذ المواعيد بمقارنة الحجوزات بالمنجز منها.
5.اتخذت إدارة الأحوال المدنية شعاراً رائعاً لخدمة المواطن وهو ''أحوالكم أحوالنا'', الذي تقرأ منه العديد من المعاني الجميلة, مثل معاني التبني التام لخدمة المواطن بصورة تفاعلية رائعة، وخدمة المواطن بصدق العاطفة والمشاعر، وفيها تحفيز للعاملين لتقديم الخدمة بنفسية صادقة وكأنهم يخدمون أنفسهم... إلخ.
6.المتابعة المستمرة من المسؤولين في الفروع بتصحيح الأخطاء ومتابعة الشكاوى ومراجعة المهام من خلال اجتماع يومي في بداية كل يوم بين مدير الفرع ورؤساء الأقسام.
7.الاهتمام بالعاملين وتطوير أدائهم, وذلك من خلال التحفيز المستمر لهم من قبل المسؤولين، وكذلك إلحاقهم بالدورات التدريبية المختلفة لهم وبصورة دورية أدت إلى إتقان عملهم وتحسين تعاملهم مع المواطنين بصورة كبيرة جداً, علماً بأن إدارة الأحوال أجادت تفعيل عملية الموظف الشامل.
8.التخطيط للتحسين المستمر في تقديم الخدمات بما يسعد المواطن ويريحه، فقد اتضح لي من خلال سؤالي مدير أحوال محافظة جدة, الذي قدم لي مشكوراً الإجابة عن بعض التساؤلات, أنه ما زال هنالك المزيد من الإجراءات والخدمات التي تسعى إدارة الأحوال المدنية لخدمة المواطن وتسهيل تعاملاته كربط المواليد في المستشفيات بهذا النظام, فلا يحتاج إلى بلاغ من والده، أو القيام بعملية طباعة المعلومات التفصيلية للمواطن التي يطلق عليها ـــ البرنت ـــ من قبل إدارات حكومية أخرى دون الحاجة إلى الذهاب إلى إدارة الأحوال المدينة.. وغيرها من الخدمات التي أتوقع أن ترى النور في القريب العاجل.
عزيزي القارئ .. إنني حينما أتحدث عن هذه التجربة المتميزة لا يمكنني أن أختم من غير أن أنوه إلى أهم أسباب النجاح والتميُّز في إدارة الأحوال المدنية المتمثل في القيادة الإدارية التي نجحت في تحفيز العاملين لتحقيق هذه النقلة الرائعة بقيادة رائعة من سعادة اللواء عبد الرحمن الفدا، وبتوجيه ودعم مستمرين من الأمير نايف بن عبد العزيز والأمير محمد بن نايف, التي كان ولا يزال لها أثر واضح في سرعة تنفيذ الإجراءات الجديدة لتقديم الخدمات بالجودة المطلوبة.. فشكراً لهم جميعاً ولكل العاملين معهم على هذا التميُّز الذي أثلج صدورنا وأسعد قلوبنا.. وهنا أجدها فرصة لدعوة المسؤولين في إدارة الأحوال المدنية لإبراز جهودهم وخدماتهم إعلامياً, فكثيرٌ من المواطنين لم يصلهم ذلك وبعضهم لا يزال مشككاً فيها.
كما لا يفوتني أن أنوه إلى أن تجربة الأحوال المدنية في خدمة المواطن بثوبها الجديد إنما هي دعوة عملية صريحة لكل الإدارات الحكومية الأخرى كي تستفيد من هذه التجربة، وتسلك مسلكها في تقديم خدمات ذات جودة تسعد المواطن وتريحه, فلم يعد الأمر مستحيلاً ولا غريبا, لكنه يحتاج إلى إرادة صادقة وسلوك منهجية فاعلة.. فهل نرى إداراتنا الحكومية تنجح في تقديم الخدمات للمواطنين والمقيمين بجودة وتميُّز؟!