العقار مهنة بلا متطلبات!
تعرفت في الصيف الماضي إلى أحد الإخوة العرب، الحاملين الجنسية الفرنسية، القادمين للعمل في المملكة، وذكر لي عدم رغبته في السكن في المجمع السكني الذي خصصته له الشركة ليقيم فيه ضمن مجموعة من الأسر الأوروبية؛ لأنه يرغب في أن يتمكن أبناؤه عند قدومهم إلى المملكة من الاحتكاك بالمجتمع العربي المسلم، وإتقان اللغة العربية، ومزاولة حياتهم بوصفهم عرباً ومسلمين، خصوصاً أنه اختار لهم مدرسة طلابُها من الناطقين باللغة العربية. فأبديت موافقتي على مساعدته على البحث عن مسكن ملائم له ولأسرته، واقترحت عليه بعض الأحياء القريبة من مجمع المدرسة التي اختارها لأبنائه ومن مكان عمله. ووعدته أن نلتقي بعد صلاة عصر اليوم التالي للبحث عن المسكن الذي يناسبه ويرضيه. فوافق مستغرباً إيحائي له بأن الأمر قد يتطلب عدة أيام.
وبعد أن قضينا أكثر من ساعتين في رحلة البحث (آخذين في التوقف عند المكاتب العقارية واحداً تلو الآخر، نكرر شرح متطلباته ورغباته لهم، ونضطر للانتظار بعض الوقت حتى يتمكن أحد العاملين في المكتب من أخذنا لزيارة الوحدة السكنية التي يرون أنها تفي بالمطلوب)، بعد هذه الساعتين لم نستطع أن نجد المسكن الذي يرضيه، فسألني بامتعاض: لماذا هذه الأعداد كلها من المكاتب العقارية التي تصطف على جانبي الشوارع لديكم؟ ألا يوجد وكلاء عقار متخصصين تتوافر لديهم معلومات دقيقة عن الوحدات السكنية المعروضة بالصور وأفلام الفيديو، لتسهل عملية البحث والاختيار؟ فدعوته إلى الصبر، وأجبته بأن لدينا بعض المكاتب - أو كما سماهم الوكلاء - المتخصصين، ولكن طلبه لن يتحقق – في الغالب - إلا عن طريق هذه المكاتب الصغيرة.
وأشغلني سؤاله عن سبب انتشار المكاتب العقارية، ودعاني إلى التفكير في الموضوع. فالمكاتب العقارية تنتشر لدينا بعشرات الآلاف في المدن جميعها، ولا يكاد يخلو شارع من مكتب عقاري، بل تجد في بعض الشوارع عدداً من المباني المتجاورة، والمحال فيها جميعها مكاتب عقارية. فحقاً ما سبب انتشار المكاتب العقارية لدينا بهذه الكثرة والكثافة؟ وما دورها في تنمية قطاع العقار؟ وهل كثرتها إيجابية أم سلبية؟ وهل انتشارها يسهل على الناس عمليات البيع والشراء؟ أم أن كثرتها حولت قطاع العقار إلى المضاربة السلبية التي ترفع أسعار الأراضي والعقارات المعروضة سواء للبيع أو الإيجار؟
لا أتذكر قبل أكثر من 40 عاماً وجوداً للمكاتب العقارية في مدينة الرياض، بل إن العاملين في مجال العقار كانوا: إما من ملاك العقار أنفسهم، أو من العاملين فيه بصفته عملاً إضافياً بجانب أعمالهم الأساسية. وإنما ظهرت المكاتب العقارية – بشكل واضح للعيان – مع الطفرة الاقتصادية الأولى في منتصف سبعينيات القرن الميلادي الماضي، حينما أصبحت الأراضي وِعاءً استثمارياً لامتصاص السيولة النقدية المتوافرة لدى الناس. وقد استقطب قطاع العقار - في البداية - بعض رجال الأعمال الذين حولوا جزءاً من نشاطهم التجاري إليه، وكذلك بعض الموظفين المتقاعدين. ولكن على مر السنين انتشرت المكاتب العقارية على النمط نفسه وبالأسلوب البدائي نفسه في العمل.
وفي رأيي الشخصي أن سبب انتشار المكاتب العقارية عائد إلى سهولة ترخيصها، وكونه لا يستلزم أي نوع من الخبرات أو المهارات أو التأهيل المسبق، وانخفاض تكاليف إنشائها، وارتباط العمل فيها غالباً بالفترة المسائية، وجودة العائد مقارنة بقلة الجهد المبذول للعمل فيها؛ فغالب أعمال هذه المكاتب لا يزيد على أعمال الوساطة العقارية (أو السمسرة) التي لا يُبذل فيها كثير جهد، فالمالك يحضر ليعرض ما لديه عند المكتب، والمشتري أو المستأجر يحضر إلى المكتب للبحث عن حاجته. فأصبحت - نتيجة لذلك - مهنة مستحبة ومرغوبة لدى نسبة كبيرة من المواطنين.