حروب بلا دماء..! (2 من 2)
تتحدّد غالبا، سرعة المبادرة العملية والتعبوية في أية حرب معلومات مستقبلية، من خلال قوة الأطراف المتصارعة، أما مفتاح النصر؛ فيكمن في معرفة الطرف الأقوى: كيف يفكر؟ قبل معرفة: كيف ينفذ؟؛ ما يؤكّد أهمية العقل النظري في وضع استراتيجيات أية دولة، مثلما يؤكد، في الوقت نفسه، ضرورة أن يحتل هذا العقل مكانه المناسب سواء في أثناء وضع التصورات، أم في مرحلة اتخاذ القرارات، وتنفيذها؛ فالمهزومون في المستقبل، ليسوا مَنْ تخلّفوا في تقنية المعلومات فحسب، وإنما إلى جانب ذلك الذين تخلفوا عن التفكير الابتكاري؛ فحرق المراحل الزمنية، دون المرور بها، بات مُتاحا للجميع، ولكن يبقى مهما اختيار الوسيلة وتحديد المسار استنادا إلى تفكير ابتكاري غير تقليدي، هو ما يكفل، بمشيئة الله، عملية اختصار الزمن هذه من أجل العبور إلى المستقبل ومن ثمّ إلى التقدم..
وربما نجد في التجربة الصينية في حرب المعلومات، ما يوضح العلاقة بين الانتماء، من ناحية، والانتصار في هذه الحروب..، وتعود هذه التجربة إلى بداية تسعينيات القرن الماضي، حينما شعروا بالحاجة إلى وضع نظرية خاصة بهم، اعتمادا على مفاهيمها الحديثة من ناحية، وإلى تراثهم الحربي التقليدي من جهة أخرى.
وقدّرت الرؤية الصينية أنه إذا كانت النسبة النظرية لعباقرة أية أمّة لا تجاوز2 في المائة من مجموع السكان؛ فإن ناتج هذه النسبة، يكون هائلا وعظيما مقارنة بتعدادهم، إذا ما أحسنت برامجهم واستراتيجيتهم الاستفادة من هذه المخرجات البشرية المتميزة، وتوظيفها في بيئة معلوماتية، تفيد برامج الدولة على المستويات المعرفية، والعلمية، والتقنية، والعسكرية، في حالتي السلم والحرب.
اهتمت التجربة الصينية في حرب المعلومات بإنشاء بنية تحتية متميزة، قادرة على المبادرة العملية والتعبوية على شبكة الحاسوب، أما التطوير الذي أضافه الصينيون إلى هذا المفهوم فيتمثّل في قيام هذه البنية على قوة خدمات معلوماتية مدنية، موجهة إلى تخصص تقني متقدِّم، ومؤلّفة من عدد من النابغين الذين يعملون من منازلهم، بصرف النظر عن أماكنهم، يتعاملون، بشكل يومي مع شبكات المعلومات على نحو مفتوح، ويخضعون في الوقت نفسه، إلى تدريبات تقنية على مستوى علمي متدرج، في جميع تخصصات الحاسوب، والبرمجة المتقدِّمة؛ ما يتيح لهذه الجماعات المدنية، اتخاذ زمام المبادرة، من خلال عملية دائمة من تحديد الأهداف، وتصحيحها.
وقد أدركت التجربة الصينية أن اختراق مجالها الحيوي في حرب المعلومات، له خطورة اختراق مجالها الجغرافي نفسه، ولا سيما إذا ارتبط ذلك باختراق بنوك المعلومات الصينية الحيوية، التي لا يمكن حمايتها إلا من خلال توافر قوة ضاربة، قادرة على الردع، وعلى الهجوم المضاد على مصادر الخصم، وكذا الحصول على معلومات تفرض التوازن والتفوق، من خلال سلب الخصم قدرته على اتخاذ القرار، سواء لنقص المعلومات، أم لكثرتها، ما يفقده القدرة على التمييز، والإسهام في إشعار الخصم بالهزيمة قبل استطاعته حسم قرار الحرب!
أما السؤال الأصعب على طرفي النزاع هنا، فهو: كيف تجبر خصمك على أن يرى أهدافك بوصفها أهدافه؟! وهو ما لن يتحقق إلا من خلال توجيه الحرب ضد عملية إدراكه ذاتها وإضعاف تلقيه، ومهاجمة بنيته الثقافية، ونظام معتقداته، وقناعاته الأيديولوجية الراسخة من أجل تغيير حالته العقلية، وإضعاف مقاومته المعنوية، وهي سياسات يمكن تحديدها من خلال مراقبة حضورها، أو قياس آثارها، في أية دولة على نحو عام مدى تأثير كل خصم على الخصم الآخر!
ونخلص من سياق التجربة الصينية، إلى عدد مهم من النتائج التي يمكن الاستفادة بها في بيئتنا السعودية والعربية، أولاها: الاستفادة من فائض المخرجات العلمية والمدنية ، التي يمكنها أن التفاعل على مستوي احترافي مع شبكة المعلومات العالمية (إنترنت)، في حالتي السلم والحرب، وهو تصور مبتكر، يحد من بطالة شريحة علمية مهمة من المجتمع، وثانيها: أهمية توافر بنية تقنية وطنية متقدمة، مرتبطة بعقل نظري قوي، وبشعوب مؤمنة بالتفاعل مع مشروعها الوطني، وهو ما يربط حرب المعلومات بالانتماء من جهة، وبالشرعية من جهة أخرى، فلا انتماء دون الإيمان بشرعية ما ينتمي إليه. وثالثها: إمكانية ارتباط مفهوم حديث مثل حرب المعلومات بالتراث الوطني، وبما وقر في الوعي الجمعي من هذا التراث؛ ما يضمن بقاء المفاهيم وفاعليتها، في سياقها الاجتماعي، وذلك إذا ما استطاعت هذه الرؤية إيجاد مشروع، يملك الإرادة، ولا يخشى المبادرة..! ورابعها: التحوط من التحديات الخاصة بإمكانية التعرّض لحرب معلومات خاصة؛ فالطرف الأقوى له خاصية المبادرة، والضربة الأولى، حيث يأتي الضعيف دائما متأخرا، ما يستوجب وجود متطلبات وشروط الأمن الرقمي؛ ليدخل ضمن الأمن الوطني للمملكة في مفهومه الشامل؛ وحتمية انتهاج استراتيجية وطنية لأمن المعلومات بعد تحديد مصادر وأشكال الخطر التي تتهدد بُنيتنا التحتية للمعلومات، والتي لم تعد مقصورة على الأشكال التقليدية، بل أصبح لها أوجه رقمية إلكترونية غير مسبوقة في شمولها وعمقها واختلافها واتّساع نطاق تغطيتها، فضلا عن فداحة أضرارها وذكاء منفذيها وتعقُّد آلياتها وتواصل هجماتها!