عدسات أجمل للعقل
يحكى أن الرحالة الإيطالي ماركو بولو حضر مجلس حاكم قبيلة لإحدى الجزر الاستوائية في جولاته الاستكشافية حول العالم، فأراد تسلية الحاكم بذكر بعض الأخبار والعجائب عن بلدان العالم التي زارها، فأخبره بأن هناك مدينة تقع في شمال إيطاليا تدعى البندقية «فينيسيا» يسير فيها الناس في فصل الشتاء فوق مياه البحيرات المتجمدة، ونظرا لأن تجمد الماء وتحوله من الحالة السائلة إلى الحالة الصلبة أمر يصعب تصديقه أو تصور حدوثه في جزيرة استوائية، وقبل اختراع جهاز الثلاجة، فقد أمر الحاكم حرسه بطرد ماركو بولو فورا من مجلسه، لأنه في نظره شخص لا يخرج عن أمرين: كاذب يصعب الوثوق به، أو مختل عقليا لا يليق بمن في مكانته الجلوس معه.
إن العقل يفكر بما يوافقه ويرفض ما لا يوافقه، وتوضح الحكاية السابقة أثر اختلاف الخبرة العملية في تشكيل العقول وتباينها، وما يترتب على ذلك من التنافر الفكري والتصادم العقلي، حيث يرفض الكثير استقبال أي معلومة جديدة أو فكرة تخالف ما ألفوه أو القالب الذهني الذي اعتادوه، وهذا ما شكل السبب الرئيسي الأول في رفض دعوة الرسل بحجة أنها تخالف رؤيتهم القديمة أو الخبرات التي وجدوا عليها آباءهم، ويطلق على هذه المجموعة من الخبرات مصطلح «البارادايم» أو نظارة العقل التي نرى العالم من خلالها، أي القالب الإدراكي الذي يحاصر حدود تفكيرنا داخل صندوقه، ومن هنا نشأ تعبير (التفكير خارج الصندوق)، حيث لا بد لكل اختراع علمي أن يتحرر من البارادايم القديم ويفكر بشجاعة خارج الصندوق.
هذا ما أكده توماس كون في كتابه المهم (بنية الثورات العلمية 1962) بأن العلم يمر بمراحل مفصلية أو ثورات تلغي القديم، وتغير اتجاه الرؤية العلمية تماما نحو جهة أخرى.
أطلق كون على هذه الثورات مصطلح «تحول الباردايم paradighm shift»، ومن الأمثلة التي طبق عليها نظريته تحول الرؤية للكون من رؤية بطليموس، التي تحتل الأرض فيها المركز إلى رؤية كوبرنيكو، والانتقال من الرؤية الكهرومغناطيسية لماكسويل إلى نسبية اينشتاين، والتحول من فيزياء نيوتن إلى نسبية اينشتاين.
خروج الجنين من الرحم، وتحول اليرقة إلى الفراشة، وانشقاق النبات من داخل شقوق الصخرة، والكتكوت من البيضة بعد نقره المستمر لجدرانها، أمثلة قوية للخروج من الصندوق، فنحن نحتاج إلى الخروج من الصندوق، لكي ننطلق نحو آفاق أوسع وألوان أكثر تعددا للعيش.