ليس مجرد خيط
يحكي الكاتب موباسانت Maupassant في روايته "قطعة الخيط"the piece of string عن بطل الرواية "هوشي كورن" الذي التقط قطعة خيط عديمة الفائدة كانت ملقاة في الأرض، وعندما لاحظ أن "ماندلان" يراقبه ـــ وهو بطل آخر في القصة لم تكن علاقته به على ما يرام ــــ شعر هوشي كورن بالخجل، وأخفى وهو يرتبك قطعة الخيط في ملابسه، ولما سمع "ماندلان" بعد ذلك أن شخصا ما فقد حافظة نقوده في هذا المكان فقد أكد وهو مقتنع تماما بأنه رأى خصمه "هوشي كورن" يلتقطها من الأرض.
إن كل شخص يلاحظ سلوكا أو حدثا ما قد يدركه بطريقة انتقائية يتداخل فيها عديد من العوامل، فليست أعضاء الإحساس وحدها المسؤولة فقط، إذ قد تتداخل عوامل سيكولوجية أخرى، ويتضح لنا من المثال السابق في الرواية مدى تأثير اختلاط واندماج الظروف والملابسات الخارجية المحيطة بالسلوك مع شخصية الفاعل كما يراها الملاحظ للسلوك، حيث يؤدي هذا الاندماج أحيانا إلى تشويه في الإدراك الاجتماعي للسلوك.
إن اختلاف الأساليب الإدراكية عند الناس يؤدي إلى اختلاف ما يستخلصونه من المواقف التي يواجهونها بسبب تباين طرق إدراكهم للمثيرات الاجتماعية، فهناك السطحيون المتسرعون في نظرتهم إلى الأمور، وهناك من يتوخون الدقة وهم الذين يتفحصون المواقف جيدا، وهناك المتفائلون الذين يرون البهجة تشيع في كل شيء، وهناك المتشائمون الذين ينظرون إلى الأحداث من خلال منظار قاتم، والشخص عندما يواجه بموقف إدراكي قد لا يمكنه من استيعاب جميع المعلومات الواردة فيه، وإنما يلجأ إلى ما يعرف بـ "الميكانيزمات الإدراكية"، ويقصد بهذا المفهوم أن الشخص ينتقي مثيرات معينة في الموقف وينظمها كي تبدو متسقة ويستطيع فهمها، كما يحدث مع القضاة والمحققين حين يجدون تناقضا في شهادة الشهود، فيكرسون جلسات طويلة كمحاولة للحصول على أكبر قدر ممكن من الدقة في شهادة الشهود، بسبب تباين أقوالهم لاختلاف إدراكهم للحادث. هناك قصور دائم في إدراك الإنسان للآخرين وحكمه على تصرفاتهم، فكل شخص ينظر إلى عالمه الاجتماعي من خلال منظار صنعه هو ويفسر به الحقائق والأحداث والتصرفات، كي تبدو متسقة وذات معنى، وهذا التنسيق قد لا يكون حقيقيا أو صائبا في معظم الحالات، ومع هذا فالشخص بدون هذا المنظار لن يستطيع أن يفهم شيئا من تصرفات الناس أو الأحداث في حياته اليومية، وقد يوسع من قصور المنظار أحيانا أن نتذكر دوما أننا لا نرى الأشياء على حقيقتها.