إن الله لا يحب المفسدين .. ! (2)

تحدثت باقتضاب في الجزء الأول من هذه المقالة، عن بعض مظاهر الفساد الذي ينخر في بيئة بعض رجال الأعمال، وبعض المؤسّسات الرسمية والأهلية على السواء؛ الأمر الذي يدعونا جميعا إلى وقفة واضحة، تكون بمثابة إعلان حرب على مثل هذا السلوك المشين، الذي يُعد مؤشرا مهما لهدم الأمم خراب الذمم؛ وهدرا للموارد الوطنية؛ وسلب ما لا يستحق لحقوق غيره؛ فالفساد بمعناه الشامل، ليس له حدود تحدُّه في إنهاك الأمم والأوطان!
إن الحديث عن الفساد كمسؤولية أخلاقية فردية؛ وبناء معالجات على هذه الفرضية منبرية ونصحية وإرشادية، أو الاكتفاء بتجريم هذا أو معاقبة ذلك، بات نوعا من العبثية بعد وصول هذا الفساد إلى سلوك ممنهج، وممارسة على أرض الواقع، لا تخطؤها العين! ‏
والحديث المكرور في الوقت نفسه، عن الفساد وأضراره، كما لو كان ظاهرة قائمة بذاتها، كلام ساكت، على رأي الإخوة السودانيين!‏ لأن الفساد في الأخير، متعلّق بأساليب إدارية بالية وبقدر ما تتيحها من شفافية وعدالة، تتضاءل معها مساحات الفساد، ويَضمُر ويتلاشى تحت أضواء الشفافية الناصعة‏.‏
والاكتفاء بهذه الحلول الجزئية لن يسبر أغوار جوهر هذه القضية‏؛ خصوصا إذا كان المال السائب يعلم السرقة‏! وبعض الإدارات المفرطة، تتواطأ مع هوامير المفسدين، ما بقيت ذمم البعض تخضع للبيع والشراء لا للنظام.. ويمكن في هذا الخصوص، سؤال صاحب المماحكة مع الإدارات والجهات ذات الصلة الخدمات الجماهيرية والتجارية، الذي سيخبرك لا محالة عن أبواب الرزق الحرام، المشرَّعة على مصراعيها ليلَ نهار، دون رقيب أو حسيب ..!
وعلى الرغم من اهتمام وسائل الإعلام السعودية، بنشر أخبار الفساد والمفسدين، وتحقيقاته من آن إلى آخر، وفضح ممارسات الفساد بالوثائق، وتوجيه سهام النقد للممارسات السلبية في الإدارات المختلفة، وإبراز الإشادة بالعاملين المخلصين..؛ بوصف هذه الوسائل، أدوات تنوير مهمة لإرساء الشفافية، والمصداقية في المعاملات والممارسات، بما يحول دون تسلل رؤوس الفساد؛ ولصوص المال العام والخاص، في جنح الظلام أن يتحرّكوا أنى شاؤوا! إلا أن اللوم يقع عليها كثيرا على الناشطين الحقوقيين، ومؤسّسات المجتمع الأهلي والمدني، للمبادرة بتسلم المسؤولية المنوطة بهم في الكشف عنه وإظهار الجهود الوطنية لمحاربته ومكافحته كافةً‏. وقد‏ أتفهم أعذار البعض بالنظر إلى نقص المعلومات‏ في هذا الخصوص،‏ وعدم تمكين الرأي العام من الوصول إليها، والقيود المفروضة على نشرها في وسائل الإعلام المختلفة.
لقد اطّلعت على الصيغة الكاملة للاستراتيجية الوطنية لحماية النزاهة ومكافحة الفساد: مقدمات ومنطلقات لمقاومة الفساد؛ وأهدافا ووسائ‍ل وآليات.. والأمل، والرجاء أن يتم تفعيل هذه الاستراتيجية؛ وترجمة طموحات خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، وولي عهده الأمين، والنائب الثاني، حفظهم الله، واستجابة لاهتمامات ومطالب المواطن السعودي‏.‏ واللافت للنظر في هذه المبادئ أن الاستراتيجية احتوت اهتماما صريحا بالأداء المؤسسي والتزاما بتحقيق النزاهة الحكومية ومحاربة الفساد بكل أشكاله‏، حيث يشكّل محورا الأداء المؤسسي، والنزاهة ومحاربة الفساد منطلقات جديدة في منظومة تطوير الجهاز الحكومي وتحديثه.
‏وهذا توجّه موفق، حيث بات مهما إعادة بناء منظومة التحديث والتطوير بصورة جذرية‏ للأداء المؤسّسي،‏ حيث لم تفلح الجهود التقليدية غير المبتكرة، بهذا الشأن خلال العقود الأخيرة من مراوحة مكانها، وحَصْر نفسها في إطار الهياكل والإجراءات والتدريب والاهتمام بالمدخلات بصفة عامة، دون منح الاهتمام بمخرجات أجهزة القطاعات الرسمية والوطنية على السواء ونواتجها وأدائها المؤسسي بصفة عامة، دون رأب التصدع، وإصلاح الخلل الذي أصاب المنظومة الأخلاقية والنزاهة وسيادة الثقافة المؤسسية في ممارسات أجهزتها على المستويات كافةً.
باتت الحاجة ماسّة إلى تطوير عمل الأجهزة الرقابية، وأدواتها، وتوفيق أوضاعها لتكون وقائية لا علاجية،‏ بما في ذلك شفافية النتائج التي تنتهي إليها أعمالها وبرامجها وجهودها‏.‏ ويتطلب هذا أيضا توفير سلطات التعامل الجدي والرادع والحاسم مع ظواهر الفساد الإداري.
وقد يمثل أحد الحلول القوية هنا تنفيذ آلية الاستراتيجية الوطنية لحماية النزاهة ومكافحة الفساد، بإنشاء الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد؛ مثلما فعلت سنغافورة وماليزيا وهونج كونج، هيئة وطنية تحوز صلاحيات واسعة في مجال عملها، تشمل ما يلي:
أ - متابعة تنفيذ الاستراتيجية ورصد نتائجها وتقويمها ومراجعتها، ووضع برامج عملها وآليات تطبيقها.
ب - تنسيق جهود القطاعين العام والخاص في تخطيط ومراقبة برامج مكافحة الفساد وتقويمها.
ج - تلقي التقارير والإحصاءات الدورية للأجهزة المختصة ودراستها وإعداد البيانات التحليلية في شأنها.
د - جمع المعلومات والبيانات والإحصاءات، وتصنيفها، وتحديد أنواعها، وتحليلها وتبادلها مع الجهات المختصة ذات العلاقة.
ومزودة بالإمكانيات الكافية، وحيث يٌنتقى له أكفأ وأفضل العناصر، وأن يتمتع بحصانة واستقلالية تمكّنه من القيام بدوره بشكل فعال‏.‏ ويمكن الاستفادة من تجارب الدول التي أنشأت جهازا مماثلا من حيث تنظيمه والأدوار التي يباشرها والتبعية الخاصة به وكذلك نظم عمله‏.‏
إن توقيت الإعلان عن إنشاء هذه الهيئة، الآن يبدو مناسبا؛ لتفعيل التنمية وتحقيق انطلاقتها استنادا إلى آليات السوق وتفعيل المنافسة، الرقابة المشددة على الاحتكار، وحماية المستهلك، والرقابة على الأسواق والحفاظ علي توازنها‏.‏ وفي كل هذه المجالات، تضطلع الدولة وأجهزتها، حتى في الدول المتقدمة، بدور مهم وقوي وفاعل لضمان أن تعمل القوى الاقتصادية وآليات السوق والمنافسة لمصلحة مختلف طبقات المجتمع‏؛ حيث يُعد الفساد الخطر الأول لعمل القوى الاقتصادية الناهضة على أسس من المنافسة وتكافؤ الفرص‏؛ بينما يشوّه‏ الفساد المعايير التي على أساسها يتم توجيه وتخصيص الموارد‏؛ ما يحقِّق منافع مستمرة، وآنية لقلة ضئيلة على حساب الصالح المجتمعي، وبالمخالفة للمنطق الاقتصادي الرشيد.‏
وفي يقيني أن ذلك يتطلب، تبني هذه الموجهّات المهمة لتعيد لجهاز الدولة وكذا جهاز القطاع الخاص مصداقيته، وتحقق برنامجا لإعادة بناء منظومة النزاهة والشفافية، ومحاربة الفساد بكل أشكاله وأنماطه وأحجامه‏.‏
وفق الله تعالى حكومة خادم الحرمين الشريفين للتعامل مع قضية الأداء المؤسسي، وقضية النزاهة ومحاربة الفساد، ففي نجاحها على هذين المجالين المهمين، نجاحٌ لأداء التنمية ولغاياتها، ولعدالة توزيع ثمارها ونجاح في كسب ثقة المواطنين.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي