تسعير المشاريع والطفرة (3 من 3)
إذا نظرنا إلى الحي أو الشارع في جميع مناطق ومدن المملكة، فإننا نلاحظ أن جميع الخدمات المنفذة في الشارع من شبكات اتصالات وكهرباء ومياه وصرف صحي وتصريف سيول وغيرها من الخدمات الأساسية، يتم تنفيذها من قبل عدة جهات حكومية مختلفة وفي أوقات مختلفة، مما يكلف الوطن ميزانيات مضاعفة نتيجة لأعمال الحفر والتهيئة والدفن والسفلتة والصيانة أكثر من مرة، كما يكلف المواطن خسائر في الوقت والإزعاج والازدحام وغيره، ناهيك عن أن سكان الحي لا يتم الاستئذان منهم ولا طلب موافقتهم عند تنفيذ مشاريع أو صيانة في أحيائهم السكنية، كما يتم العمل به في الدول المتقدمة. في المقابل هناك تجارب دولية وحتى محلية، ومنها تجربة الهيئة الملكية للجبيل وينبع وتجربة الحي الدبلوماسي الذي تم تنفيذه من قبل الهيئة العليا لتطوير مدينة الرياض، وهي تجربة تماثل تجارب دولية ناجحة في كيفية التخطيط والتنفيذ لجميع خدمات البنية التحتية من مياه وكهرباء واتصالات لشارع معين أو حي معين أو مدينة معينة، فجميع هذه الخدمات تم تنفيذها من قبل جهة واحدة وفي وقت واحد، وتتم الصيانة بجدولة معينة. وبمقارنة بسيطة، عندما تنتقل من الطريق الدائري الغربي إلى داخل الحي الدبلوماسي في مدينة الرياض، تفاجأ باختفاء الحفر والتحويلات والإزعاج والازدحام ومؤسسات وشركات الصيانة والتشغيل والعمالة، وتفاجأ باختفاء الجهات الحكومية المسؤولة حالياً عن خدمات المياه والكهرباء والاتصالات من إدارة وتشغيل البنية التحتية في هذا الحي. للحظات، تكاد تشك بأنك ما زلت في مدينة الرياض، والحال لا تختلف عنها في المدن الأخرى في المملكة.
تعدد تكاليف المشاريع وارتفاعاتها في جميع القطاعات، سواءً التعليمية أو الصحية أو الخدمية، دون تكامل أو تنسيق بين القطاعات الحكومية، ودون نظرة مستقبلية وواقعية، أصبح ظاهرة تتنامى وتبعث على القلق من استمرارها وتضخمها، مكلفة الوطن خسائر مالية حالية مستقبلية مع ضياع فرص أفضل لاستثمار الفوائض المالية، وخصوصاً مع الزيادات المتوقعة في الوفورات المالية للسنوات الحالية والقادمة. وقد تعرضنا في المقالات السابقة إلى أهمية وضرورة التوقف وإجراء مراجعة شاملة للمشاريع الحالية نظراً لعدم تكامل وجاهزية عناصر العملية الإنتاجية من بنية تحتية وموارد بشرية وقطاع خاص محلي، وضعف، إن وجد، التنسيق والتكامل بين الجهات الحكومية كل فيما يخصه، وعدم معقولية وتوقيت وجدولة وتكلفة هذه المشاريع على ميزانية الدولة، سواءً ما يخص التكاليف الرأسمالية أو تكاليف الصيانة والتشغيل أو ارتفاع أسعار الترسية والتي وصل فيها أن أصبحت المليارات أرقاماً متداولة بالنسبة للمشاريع، وعدم معقولية الفترة الزمنية لتنفيذ مثل هذه المشاريع، مع عدم تطبيق منهجية تنفيذ وتشغيل وصيانة المشاريع على أساس المراحل. ونناقش في هذا الجزء من المقالة أهمية وجود مرجعية موحدة لتخطيط واعتماد والإشراف على ومراقبة ومتابعة جميع المشاريع الاستراتيجية الوطنية، ونوعية وحجم المخاطر المحيطة والمتوقعة عند تنفيذ مثل هذه المشاريع بالتكاليف العالية وخلال جدول زمني غير واقعي.
من المهم في تخطيط المشاريع وجود خطة شاملة ومرجعية واحدة لتخطيط واعتماد وتنفيذ المشاريع بأنواعها سواء تلك المتعلقة بالبنية التحتية أو المشاريع الأخرى ومنها التعليمية والصحية والخدمات وتقنية المعلومات. في الوقت الحالي، يلاحظ تعدد الجهات التي تخطط وتعتمد وتنفذ، حتى داخل القطاع الواحد. ففي قطاع التعليم، هناك التعليم العام والتعليم العالي والتعليم الفني والمهني، يتم التخطيط لها بشكل مستقل، فوزارة التربية والتعليم تعمل بشكل مستقل عن وزارة التعليم العالي وعن المؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني، إضافة إلى دخول مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية في هذا المجال، حيث تعمل على تنفيذ خطة وطنية للعلوم والرياضيات، وهي تمس قطاع التعليم بشكل مباشر. بل يلاحظ غياب التنسيق داخل هذه الجهات، فمثلاً نجد أن جامعة الأميرة نورة يشرف على تنفيذها ومتابعة تجهيزها وتشغيلها وزارة المالية، وهو أمر لا يتعارض فقط في وجود تعدد للمرجعيات في قطاع التعليم العالي، ولكنه أيضاً يتعارض مع مهام ومسؤوليات وزارة المالية، والمسؤولة عن إدارة خزانة الدولة وليس تنفيذ المشاريع، وهو توجه جديد نلاحظه على وزارة المالية في الفترة الأخيرة. والحديث نفسه ينطبق على القطاعات الأخرى، مثل مسؤولية إنشاء السكك الحديدية والقطارات بين وزارة النقل ووزارة الشؤون البلدية والقروية.
في ظل العمل بهذا الأسلوب وتعدد المرجعيات وتعدد وارتفاع تكاليف المشاريع، وعدم التفكير في المستقبل، سوف نواجه مشكلات كبيرة في كيفية إدارة وتشغيل هذه المشاريع في المستقبل. ما هو مؤكد أن طريقة العمل والتسعير الحالية تكلف الدولة والوطن أعباء مالية وإدارية إضافية ومكلفة، أقلها التكاليف الباهظة لتملك الأصول من هذه المشاريع على الدولة في المستقبل، خاصة مصاريف الصيانة والتشغيل. سبق أن اقترحنا أن تقوم وزارة المالية بتنفيذ جميع الإجراءات اللازمة لضمان معقولية وجدولة المشاريع بما يضمن أفضل عائد للاستثمار للوطن، وهو العمل الأساسي لوزارة المالية. وفي ظل وجود فجوة تنظيمية من حيث عدم وجود جهة متخصصة ومستقلة تقوم بعملية التخطيط والمتابعة والتأكد من حسن أداء وجودة المشاريع، فقد يكون من المناسب أن يقوم مجلس الشورى بدراسة ظاهرة تعدد وارتفاع تكاليف المشاريع وعدم وجود جهة مرجعية ومسؤولة عن المشاريع.
وللحديث بقية.