حوار عربي ـــ صيني حول الماضي والحاضر والمستقبل
الصين دولة مهمة من الناحية الاستراتيجية، وهي ذات حضور عالمي مؤثر، تتسم سياساتها بالهدوء والتعاون، لكنها تتمدد بشكل يدفع الدول العظمى لمراقبتها والتعاون معها أو افتعال المشكلات نحوها، وإن كانت العلاقات العربية ـــ الصينية ذات طابع محدود في السنوات السابقة، إلا أنها اليوم أصبحت جزءا مهما من الحراك السياسي والدبلوماسي المتبادل، وقد اتخذت الدول العربية وخاصة السعودية خطوة مهمة باتجاه تنويع وجهة العلاقات الاستراتيجية مع دول العالم، حيث كان التوجه شرقا رؤية جديدة لبناء علاقات فاعلة مع شعوب ودول وحضارات لها مكانتها تحت الشمس، وما توقيع الاتفاق الأمني السعودي ـــ الصيني أخيرا إلا تتويج لهذا التوجه الذي سيخدم دول المنطقة برمتها، وبحكم محاولات الاتصال السياسي والثقافي والبحثي والاستراتيجي فقد التقينا في بكين في منتصف أيلول (سبتمبر) الماضي عددا من الخبراء الصينيين في إطار البحث عن العلاقة الاستراتيجية المتبادلة عربيا وصينيا.
زيارة خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز إلى الصين والوفد المرافق له كانت مناسبة مهمة لتعزيز العلاقات العربية ـــ الصينية المعاصرة، لا سيما وقد اكتملت بإقامة علاقات دبلوماسية بين الصين الشعبية الحديثة والبلدان العربية في عام 1990، خصوصاً وقد بدأت الصين الجديدة تأخذ مكانها في المجتمع الدولي تدريجيا، لا سيما بعد التحوّلات والتطورات المهمة التي حدثت فيها، وخاصة في عهد الانفتاح والإصلاح الذي بدأ في عام 1978 ـــ 1979.
وحققت خلال الثلاثة عقود ونيّف الماضية تنمية شاملة في جميع الميادين، خصوصاً بعد أن تخلّصت من تأثيرات الثورة الثقافية التي استمرت عشرة أعوام 1965 ـــ 1975، وحدث ذلك بعد وفاة زعيم الصين التاريخي ماوتسي تونج، وتصفية كتلة الأربعة بمن فيهم زوجة الزعيم الراحل، الذي ما يزال تمثاله ينتصب في ساحة تيان إن مين، التي شهدت هبّة طلابية وصدامات مع الحكومة في أواخر السبعينيات، راح ضحيتها عشرات من الطلبة، واعتبرت تاريخاً فاصلاً بين عهدين.
ويعود تاريخ العلاقات العربية ـــ الصينية المعاصرة إلى تعرّف شوان لاي الزعيم الصيني في عام 1955 في مؤتمر باندونج الذي تبنّى سياسة الحياد الإيجابي، على مطالب الفلسطينيين والعرب، واعترفت مصر كأول دولة عربية بالصين الشعبية في عام 1956، وتبعها العراق بعد نجاح ثورتها في 14 تموز (يوليو) عام 1958، ولكن العلاقة العربية ـــ الصينية لم تتطور فعلياً أفقياً وعمودياً، إلا بعد استعادة الصين موقعها في الأمم المتحدة وعضويتها الدائمة في مجلس الأمن الدولي في عام 1973، وكذلك بعد المتغيّرات الداخلية الصينية التي تمثّلت في انتهاج سياسة جديدة مرنة وأقلّ أيديولوجية، لا سيما مع دول العالم الثالث والبلدان النامية في أواخر السبعينيات، ومن ثم اتباع سياسة جديدة بعد المتغيرات الدولية، وخاصة عند انهيار الكتلة الاشتراكية في أواخر الثمانينيات، وهو ما هيأ لإقامة علاقات إيجابية بين البلدان العربية والصين، بغض النظر عن التوّجهات السياسية وطبيعة النظام الاجتماعي وسبل التنمية المنشودة.
وقد تمخّضت العلاقات العربية ـــ الصينية، ولا سيما في السنوات الأخيرة عن إقامة مجلس عربي ـــ صيني، عقد دورة رابعة قبل فترة قصيرة، حيث اغتنت العلاقات وتنوّعت في المجالات الاقتصادية والتجارية والعلمية والتكنولوجية وبعض الحقول الاستثمارية، إضافة إلى التعاون السياسي الذي عرفته العلاقات العربية ـــ الصينية المعاصرة. ومع الأسف، فإن الجوانب الثقافية ظلّت شحيحة ومحدودة، لا سيما في حركة الترجمة والتبادل الأدبي والفني في حقول الرواية والشعر والمسرح والفن التشكيلي والسينما وغيرها، وهو ما يستحق وقفة جدية، لعل المجتمع المدني يمكن أن يسهم فيها بشكل جدّي، بما يعزز العلاقات بين الحضارتين العظيمتين والأمتين العريقتين العربية والصينية.
وإذا كانت ثمت مقاربات ومجايلات فلسفية بين فلسفة بلاد ما بين النهرين القديمة وخاصة حضارة السومريين والآشوريين والبابليين وكذلك حضارة وادي النيل، وبين حضارة الصين القديمة، وخصوصاً فلسفتها الكونفوشيوسية والبوذية والتاوية، ولعل بعض هذه الفلسفات يمكن مقاربتها أيضاً مع الفلسفة العربية ـــ الإسلامية والفلسفة الصوفية تحديداً.
لقد عرف سكان منطقتنا علاقة قديمة مع الصين بواسطة التجارة، فمنذ أكثر من ألفي سنة كان هناك ما يسمّى بطريق الحرير لنقل البضائع الصينية إلى المنطقة وبالعكس. وحتى في ظل الدعوة المحمدية وصل بعض الصحابة إلى الصين، وقد رخّص لهم ''الإمبراطور'' في حينها عرض أفكارهم وتعاليم دينهم، وأجاز لهم حق التعبير في بادرة تقدير للعلاقات، وفي إطار من التسامح اتسمت به الحضارتين الخالدتين.
ولعل قول الرسول محمد ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ: ''اطلبوا العلم ولو في الصين''. يشكل دلالة كبيرة على احترام النبي لدور العلم وتقديره له من جهة، وعلى معرفة لما وصلت إليه الحضارة الصينية المجايلة للحضارة العربية القديمة.
إن التطورات التي حصلت في الصين خلال السنوات الـ30 ونيّف الماضية تشير إلى القفزة السريعة في ميدان التنمية التي حققتها، لا سيما في منهاجها الإصلاحي والانفتاحي، حيث بلغ معدّل النمو خلال العقدين الماضيين نحو 10 في المائة، وهو من أعلى المعدّلات على المستوى العالمي، وحتى عقد من الزمان لم يكن إنتاج الصين يساوي ''ثمن'' 1/8 إنتاج الاقتصاد الياباني، أما اليوم فقد تجاوز الإنتاج الصيني الإنتاج الياباني، على الرغم من استمرار الفجوة مع العالم الغربي واستمرار الخلل في الإنتاج بين الساحل والداخل، ولعل هذا هو ما يدعو بعض الباحثين والأكاديميين والزعماء الصينيين إلى الإصرار على أن الصين ما تزال دولة نامية، على الرغم من أنها ثاني دولة في الإنتاج العالمي، وقد تصبح الدولة الأولى في عام 2020، ولعلهم يتشبثون بمستوى المعيشة الذي لم يزل لا يرتفع عن 105 في المائة من مستوى المعيشة العالمي.
ولعل مثل هذه التبريرات كأنها تدفع الاعتقاد إلى عكسه، إذ لا بد من دور سياسي قد يطالب به الآخرون، حيث يوازي الدور الاقتصادي الكبير على المستوى العالمي. وهو ما لا ترغب فيه الصين في الوقت الحاضر على أقل تقدير.
وإذا كانت التجربة التنموية الصينية في مرحلتها الأولى 1949 ـــ 1979 قد شهدت تطوراً ملحوظاً ببناء قاعدة تحتية وهياكل ارتكازية وتراكم أولي وأدوات إنتاج عامة بيد الدولة وعلاقات إنتاج اشتراكية وعدالة اجتماعية ضمن المفهوم السائد آنذاك، إلا أنها كانت تنمية محدودة، لا سيما في شكل النظام السياسي والمركزية الصارمة والبيروقراطية المستحكمة، إلا أن المرحلة الجديدة تغيّرت إلى حدود غير قليلة، لا سيما في تعزيز دور القطاع الخاص مع بقاء القطاع العام لأدوات الإنتاج الأساسية بيد الدولة، إلا أن التنمية الهائلة في المجالات المختلفة التي شهدتها الصين باعتبارها نموذجاً عالمياً متميّزاً، رافقتها إشكالات تتعلق بتوزيع الثروة، لا سيما ببقاء نحو 150 مليون إنسان في حدود خط الفقر أو دونه، واختلالات بين التنمية لمناطق الساحل الغنية، ومناطق الداخل الفقيرة، إضافة إلى مشكلات البيئة والحداثة والحرية، حيث لا يمكن الاستمرار في خط التنمية المتطور دون حلّ إشكالاتها.
وإذا كانت الأزمة الاقتصادية والمالية التي هزّت العالم في أواخر عام 2008، وما تزال مستمرة لحد الآن وقد تتواصل حتى نهاية عام 2012، فإن الصين لم تتأثر بها، بل أصبحت حسب بعض التقديرات الاقتصادية المحايدة أقوى من قبل، لكن ذلك لن يستمر إلى ما لا نهاية، خصوصاً بوجود مشكلات الفقر والتلوث والأقليات والتنوّع وغيرها، الأمر الذي يتطلب منهجاً جديداً في التعامل مع المستجدات والمتغيرات، خصوصاً في كيفية تجاوز البيروقراطية وتحقيق انسجام وتفاعل مع متطلبات الحداثة وتحدياتها.
لقد تسنى لي أخيرا زيارة الصين للمشاركة في حوار عربي ـــ صيني أسهم فيه نخبة متميّزة من المفكرين والباحثين والمثقفين العرب والصينيين، فمن الجانب العربي شارك الدكتور عبد الكريم الإرياني والدكتور جواد العناني وسمير حباشنة والدكتور يوسف الحسن وعبد الله بشارة والدكتور علي أومليل والدكتور محمد نعمان جلال والدكتور محمد عبد العزيز ربيع والدكتور همام غُصيب، ومن الجانب الصيني شارك نائب وزير الخارجية الصيني Song Tao والسفير Wu Sike والسفير Liu Boalai والباحثة Lee Rong المستشارة في معهد الصين للدراسات الدولية وتشانج شيادونج والإعلامي Gu Zhenglong من وكالة أنباء شينخوا والباحثين Lee Shaoxion و Gu Xiangang و An Huihou، إضافة إلى مدير معهد الصين للدراسات الدولة Qu Xing.
وقد التأم المؤتمر في بكين للفترة بين 20 و24 أيلول (سبتمبر) 2010 وهو المؤتمر الرابع في سلسلة دورات متواصلة لبحث الجوانب المختلفة في العلاقات منتقلين من العام إلى الخاص، وربما ستكون الدورات القادمة أكثر خصوصية، وانشغل الأكاديميون والباحثون في حوارات عميقة وشائقة لبحث جوانب مختلفة من العلاقات العربية ـــ الصينية، حيث أظهرت مدى الاهتمام المشترك في التعرّف من كلا الطرفين على ما لدى الآخر، لا فيما يتعلق بالمستجدات والمتغيّرات في العلاقات الدولية وفي علاقة العرب بالصينيين حسب، بل بجوانب مهمة من الفلسفة والتاريخ والمشترك الإنساني لكلتا الأمتين والحضارتين المتناظرتين.
وكان المعادل الفكري والأكاديمي والشريك في ملتقيات الحوار العربي ـــ الصيني، هو منتدى الفكر العربي، في حين كان الجانب الصيني ممثلا في معهد الصين للدراسات الدولية، التابع لوزارة الخارجية الصينية، وهو معهد عريق يسهم في تقديم آرائه وتصوّراته لأصحاب القرار السياسي والاقتصادي، ويعد مؤتمر بكين الأخير للحوار العربي ـــ الصيني هو الرابع من نوعه، فقد التأم المؤتمر الأول في عمان في عام 1986، أما المؤتمر الثاني فقد كان في بكين في عام 2002، وكان المؤتمر الثالث في عمان في عام 2006، وهذا هو المؤتمر الرابع.. كما تم الاتفاق على عقد دورة جديدة من الحوار (الخامس) في عام 2012 في عمان.
وإذا كان التعاون السياسي والتجاري والاقتصادي قديماً بين العرب والصينيين، لكنه تطور بسرعة خلال السنوات الأخيرة الماضية وبلغ حجم التبادل التجاري نحو 110 مليارات دولار، ولعل مجالات كثيرة يمكن تغطيتها، خصوصا بمعادلة النفط مقابل السلع، حيث يشكّل نحو 70 في المائة من احتياجات الصين من النفط من العرب والإيرانيين، لكن ذلك وحده ليس كافيا، ولا بدّ من تعزيز العلاقات في مجال الاستثمار، لا سيما في إطار البنى التحية العربية ثنائياً أو من خلال استثمارات عربية لأكثر من دولة مع الصين، ولا بدّ من صيغ متطورة للتعامل الاستثماري. وبالتأكيد ستكون الحاجة إلى حاضنة ثقافية أمرٌ مهم خصوصاً بتعزيز وتنمية وتطوير التبادل الثقافي والأدبي والفني وتعزيز حركة الترجمة من وإلى العربية والصينية وبالعكس.
لعل ذلك هو الذي يمكن أن يحي طريق الحرير الجديد القائم على المصالح المشتركة والمنافع المتبادلة واحترام الخصوصيات والبحث عن المشترك الإنساني بما يعزز العلاقات بين الشعوب وحضاراتها وثقافاتها.