الاستحقاق الانتخابي والأزمة الدستورية في العراق
لعل قرار الانسحاب الأمريكي من العراق الذي بدأت مرحلته الأولى، يعد من أكبر وأخطر التحديات التي تواجه العملية السياسية في العراق ما بعد الاحتلال والإطاحة بالدكتاتورية وبداية مرحلة جديدة من مراحل التطور السياسي والاجتماعي في العراق. فقد تم سحب نحو 91 ألف جندي أمريكي من العراق استناداً إلى الاتفاقية العراقية ـــ الأمريكية التي تم التوقيع عليها بين الرئيس الأمريكي السابق جورج دبليو بوش وبين دولة رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي في أواخر عام 2008.
#2#
وكان الرئيس الأمريكي الحالي باراك أوباما قد وعد ضمن برنامجه الانتخابي بسحب القوات الأمريكية من العراق استحقاقاً والتزاماً بالاتفاقيات الموقعة بين البلدين، الأمر الذي سعى إلى وضعه موضع التطبيق عشية وصوله إلى سدّة الحكم في البيت الأبيض، على الرغم من بعض الإشكاليات التي واجهها، سواء من جانب وزارة الدفاع (البنتاجون) أو بعض العسكريين الميدانيين، وتجاذباتهم مع وزارة الخارجية والمخابرات المركزية الأمريكية الـCIA، لكنه أصرّ في نهاية المطاف على الانسحاب، خصوصاً وأنه لم يكن مسؤولاً عن الاحتلال.. كما أن فوز الديمقراطيين وهزيمة الجمهوريين، كان من أسبابها الأساسية هو الورطة التي أوقع الرئيس السابق بوش الولايات المتحدة فيها، حيث خسرت الكثير من سمعتها وصدقيتها، فضلا عن الخيبة التي واجهتها واشنطن إزاء فشل مشروعها الإمبراطوري وسياساتها لا في الشرق الأوسط حسب، بل على المستوى الكوني.
وإذا ما عرفنا حجم الخسائر البشرية والمادية التي أخذ الحديث يكثر عنها، لا سيما بعد الفشل السياسي، وعلى الرغم من النجاح العسكري في احتلال العراق، يمكننا أن ندرك التحديات المتعاظمة التي أخذت تواجه واشنطن، فقد بلغ عدد القتلى الأمريكان ما يقارب 4400، أما عدد الجرحى والمعوّقين والمرضى النفسيين، فقد زاد عن 31 ألف، وهذه هي الأرقام الرسمية فقط، وبالإمكان إضافة أعداد كبيرة أخرى من المرتزقة والمتعاقدين وعناصر الشركات الأمنية وغيرها.
كما أن الحرب على العراق كلفت الولايات المتحدة أكثر من ثلاثة تريليونات دولار حتى نهاية عام 2008، وهي أرقام فلكية بكل المعايير، الأمر الذي زاد من ضغط الرأي العام الأمريكي على الإدارة الأمريكية للإيفاء بالتزاماتها والبدء بالانسحاب.
يضاف إلى ذلك تفاقم الأزمة الاقتصادية والمالية العالمية وانعكاساتها على الولايات المتحدة وانهيار مصارف كبرى وشركات تأمين عملاقة، حيث باتت إعادة النظر في الاستراتيجية العسكرية الأمريكية بخصوص العراق أمرا لا غنى عنه، بل ضرورة لا مفرّ عنها، خصوصاً بتحسّن الأمن نسبياً وإجراء انتخابات تشريعية ثانية، وعلى الرغم من حصول اختراقات غير قليلة وانتهاكات كثيرة، لكن المسألة لا تتعلق بسير العملية الانتخابية بقدر تعلقها بقضايا أكثر تعقيدا مثلما هو القانون الانتخابي ذاته، وكذلك الإشكاليات الموجودة في الدستور، التي اعتبرت بمنزلة ألغام خطيرة يمكن أن تنفجر في أي لحظة، كما يمكنها أن تنسف العملية السياسية وما حولها، وما الأزمة الدستورية وحال التعويم الذي وصل إليه الوضع العراقي إلا انعكاس لهذه الإشكاليات والعقد، رغم نجاح العملية الانتخابية.
ولكن لحد الآن ثمة مخاوف أبداها العديد من السياسيين والمتابعين للشأن العراقي، من داخل العملية السياسية ومن خارجها، مفادها بتساؤل مهم ومشروع: هل أن الولايات المتحدة ستترك الساحة خالية إلى إيران التي تعاظم نفوذها على نحو واسع، أم أن الأمر بمنزلة إعادة انتشار وليس انسحابا كاملا؟ فحتى الآن سيبقى في العراق نحو 50 ألف جندي مع عدد من القواعد العسكرية أهمها خمس قواعد أساسية بما فيها بضعة آلاف من الموظفين يصل عددهم حسب بعض التقديرات إلى ما يزيد على أربعة آلاف موظف، حيث تعد السفارة الأمريكية في بغداد من أكبر سفاراتها في العالم.
كما أن انتهاء المهمات القتالية للقوات الأمريكية، وتفرّغ أقسام من القوات المتبقية للتدريب والتأهيل للقوات العراقية، لا يعني أنها قوات غير مقاتلة، حيث ستضطر إلى مواجهة التحديات والمخاطر التي تعتقد أنها تحتاج إلى معالجات عسكرية وتدخّل مباشر، ولعل ما حصل في الفلوجة بُعيد أيام قليلة من الانسحاب الأمريكي خير دليل على ذلك، حيث قامت القوات الأمريكية والقوات العراقية بعملية دهم واسعة وقتلت سبعة مواطنين بزعم أنهم يمثلون بؤرة لتنظيمات القاعدة الإرهابية، الأمر الذي أثار استياء كبيرا حتى لدى أوساط من داخل العملية السياسية، لكنه كان إفصاحاً جديداً عن أن القوات الأمريكية باقية، وأن مهمة مكافحة الإرهاب على المستوى الدولي لم تنتهِ بعد، وهي أحوج ما تكون إليها الدول من أصدقاء الولايات المتحدة وبضمهم العراق حسب التصنيفات السائدة.
وهكذا سيستمر الأمر حتى نهاية عام 2011، حيث ستنتهي الاتفاقية العراقية ـــ الأمريكية، لكن الاعتقاد السائد هو أن اتفاقية جديدة سيتم إبرامها لتنظيم العلاقات بين البلدين، ولكي لا يحصل نوع من الفراغ الأمني والسياسي.
وأظن أن الولايات المتحدة ستعمل على إدامة وجودها العسكري في العراق، وكذلك نفوذها السياسي والاقتصادي والثقافي، ولم نعرف حتى الآن أن الولايات المتحدة حيث تتوزع قواعدها العسكرية البالغة 136 قاعدة خارج الولايات المتحدة، كانت قد غادرت بلدا من البلدان دخلته عسكريا، دون أن تترك قاعدة فيه، إلا إذا خرجت مهزومة كما هي في فيتنام، وأعتقد أن عقدة فيتنام ظلّت مؤرقة للولايات المتحدة وكانت نصب أعينها في حربها واحتلالها العراق وما بعد ذلك.
لهذه الأسباب، فهي تعيد ترتيب أوراق استراتيجيتها، لكي تبقى خارج المدن وفي قواعد عسكرية بعيدة، وتتدخل عند الحاجة الضرورية والقصوى أحياناً، لا سيما إذا استتبّ الوضع الأمني وسارت العملية السياسية دون انقلابات أو انكسارات كبيرة، مع تراجعات وتقدم بطيء لكنه مستمر، ولعل هذا ما تريده واشنطن في الوقت الحاضر بعد أن خفضت من سقف أهدافها إزاء العراق، وطوت صفحة الديمقراطية أو أجلت فتحها بعد أن وجدت الكثير من الألغام تواجهها، مع أن إجراء انتخابات دورية واستمرار الحق في التعبير والتظاهر والتنظيم والإقرار بالتعددية والتنوّع أصبح من سمات الوضع الجديد، على الرغم من بعض القيود والعقبات، لا سيما وجود الميليشيات، مع أن حكومة المالكي قلّصت من نفوذها إلى حدود كبيرة.
وكذلك استمرار حالة التشظي الطائفي والمذهبي والإثني، على الرغم من أن الكثير من القوى بدأت تغسل يدها منها، وكذلك استمرار الإرهاب والعنف والفساد المالي والإداري الذي في حاجة إلى إجراءات حازمة للتصدي له، ولن يكون ذلك ممكناً دون وجود حكومة شراكة تمثل الفئات المختلفة، التي هي في حاجة إلى توسيع الدائرة من خارج العملية السياسية، خصوصاً وأن إعلان الانسحاب الأمريكي من العراق، بدأ يهيئ ظروفا جديدة مختلفة عن فترة الاحتلال المباشر أو الهيمنة المباشرة في ظل الحكومات السابقة.
لقد جاء نائب الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى العراق في زيارة ثالثة ليحثّ الأطراف العراقية على الاتفاق والتوافق، خصوصاً وأن المشهد السياسي العراقي بعد سبعة أشهر من إجراء الانتخابات في السابع من آذار (مارس) 2010 بدا مشوشاً وملتبساً، والقلق أخذ يتعاظم في ظل حال التعويم السياسي الناجم عن عدم الاتفاق على تشكيل حكومة وتسمية رئيس وزراء بسبب الاختلاف حول الكتلة الأكبر وتفسيراتها، فهناك من اعتبرها القائمة التي حصلت على 91 مقعداً، وهي القائمة العراقية برئاسة الدكتور إياد علاوي، وهناك من فسّرها بالكتلة الأكبر في البرلمان، التي قد تنجم من اتحاد قائمتين أو أكثر، بهدف الحصول على الموقع الأول ككتلة أكبر وهو ما حصل بعد اتفاق كتلة دولة القانون برئاسة المالكي وكتلة الائتلاف الوطني برئاسة عمار الحكيم، حيث أصبحت الكتلة تضم 89 (دولة القانون) + 70 كتلة الائتلاف والمجموع هو 159 مقعدا.
وقد مال قرار المحكمة الاتحادية العليا إلى التفسير الثاني حول الكتلة الأكبر أو اعتبره الأقرب إلى روح النص الدستوري، لا سيما عدم وجود مذكرات تفسيرية للأعمال التحضيرية عند إعداد الدستور، لكن ذلك لم ينهِ الإشكالية السياسية، بل زادها تعقيداً، حيث أخذ كل طرف يتشبث بمواقفه محاولاً تفنيد حجم الطرف الآخر.
وبغض النظر عن بعض الاعتراضات والتفسيرات، فقد كانت زيارة نائب الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى بغداد، مهمة لجهة إعلان رغبة واشنطن في تعاون بين كتلة دولة القانون برئاسة نوري المالكي وكتلة العراقية برئاسة إياد علاوي، وهو لو تحقق سيحسم موضوع (الكتلة الأكبر) التي كان من حقها دستورياً تشكيل الوزارة قبل 14 تموز (يوليو)، ولكن انعقدت جلسة البرلمان وانفضّت حتى إن قيل إنها لا تزال مفتوحة دون التوصل إلى حل للمعضلة التي باتت مستعصية، وخاصة من سيحتل منصب رئاسة الوزارة ليتم الاتفاق على تسمية رئيس الجمهورية ورئيس البرلمان ورئيس مجلس القضاء الأعلى، ولكن العقبة الأساسية تبقى في الاتفاق على منصب رئيس الوزراء، الذي يزداد حوله الأخذ والرد والتلويح بالتهديد وانفلات نسبي للوضع الأمني بكثرة الاختراقات والتفجيرات.
وقد تردد أن مصلحة إيرانية وأخرى أمريكية قد التقتا، ولكل أسبابه في تجديد ولاية ثانية لرئيس الوزراء المالكي، إلا أن المشكلات الأخرى حول الحصص والنسب والوزارات ما تزال مصدر خلاف لا يقلّ شأناً عن منصب رئاسة الوزراء إذا افترضنا ترجيح تسمية المالكي، لا سيما بعد زيارة جو بايدن الأخيرة التي أعلن عنها، وهي الزيارة الثالثة في فترة أقل من عام، فقد زار العراق بُعيد إعلان قوائم الاجتثاث قبيل الانتخابات وبعد الانتخابات بهدف إيجاد تسوية لتسمية رئيس الوزراء، وأعلن عن الزيارة الثالثة لوضع اللمسات الأخيرة لسيناريو الإعلان عن الاتفاق.
إن الوضع القائم انعكاس لأزمة دستورية وفراغ سياسي، الأمر الذي قد يؤدي إلى تفقيس بيض الإرهاب ويعيد العملية السياسية القهقري، لا سيما زيادة حدّة الاستقطاب الطائفي والإثني، ولهذا حضر جو بايدن بثقله لأكثر من مرة والتقى بالكتل الرئيسة وتحدث من موقعه عن رغبة في التوصل إلى اتفاق على تشكيل الحكومة.
ولو افترضنا أن الوزارة سيتم تأليفها خلال الشهرين القادمين كواحد من الاحتمالات، إذ إن بقاء الحال كما هو عليه يعني دخول الحالة العراقية في تعويم سياسي لا يعرف أحد نتائجه في ظل الانشقاقات الحاصلة، الأمر الذي لوّح باحتمال طلب تدخل الأمم المتحدة والمجتمع الدولي للتوصل إلى اتفاق بشأن الحكومة القادمة، وهو ما جاء على لسان نائب رئيس الجمهورية طارق الهاشمي من كتلة العراقية، فإن ثمة استحقاقات ستواجهها، خصوصاً استعادة هيبة الدولة، وإعادة بناء القوات المسلحة، حيث تكون قادرة على حماية البلاد من التحديات الخارجية، ناهيكم عن مساهمتها في تحسين الخدمات الضرورية، لا سيما الماء والكهرباء والتعليم والصحة، تلك التي ظلّ العراق يعانيها طيلة السنوات السبع ونيّف الماضية.
وإذا كان مؤكداً أن النظام الشمولي الاستبدادي قد احتضر، فإن الديمقراطية لم تولد بعد، ولعل مرحلة الانتقال والتحوّل الديمقراطي ستكون طويلة ومتعرّجة، ولكن يمكن القول: إن أي ديمقراطية ناقصة أو مبتورة أو توّجه نحوها، هو أفضل من أي توتاليتارية أو تسلطية أو استبداد.
إن واشنطن تريد أن تطمئن على "مستقبلها" من جهة، ومن جهة ثانية، تسعى إلى قطع الطريق على الأوساط الأكثر قرباً من إيران، لأنها تدرك حجم الاستحقاقات التي ستكون برسم الحكومة العراقية الجديدة. ولهذا فهي تسعى إلى قيام حكومة لا تكون فناءً خلفياً لإيران، مثلما يمكن وضعها في مواجهة محدودة أو جزئية معها، وهو ما يرضي طهران أيضاً على حساب حكومة حليفة لواشنطن ومعادية لها، حيث يمكنها أن تكون رأس حربة في صراع واشنطن ـــ طهران في العراق، وهو ما ترفضه طهران بشدة.