خربشات على ورقة ملتقى النص المسرحي!
في ثلاثة أيام فقط، كان ملتقى النص المسرحي يقدم لنا ذاكرة تكفي لوقت طويل جدا، كنت مشغولا برسم عشوائي على ورقة عندما كان كل شيء يتكامل ليجعل المناسبة الصيفية حافلة بالنجاح، الديكورات المرتبة دون تكلف، والبهو الأنيق لفندق قصر الناصرية، والعدد الذي لا يمكن حصره من الأوراق والخطوات والابتسامات، وبقية الطقوس التي تؤكد أن العمل الصحفي - وعلى غير العادة - يمكن أن يمتد لساعات الصباح الأولى مع المسرحيين لكنه لا يصبح متعباً أبدا.
لا أعرف السر تحديداً، ولكني متأكد من حدوثه بالطريقة نفسها لثلاث مرات مع اختلاف الزمن والمكان بين مهرجان المسرح السعودي الرابع ومهرجان الأحساء المسرحي، وأخيرا في ملتقى النص، يولد الحدث في فكرة، ويستيقظ على تحدٍ، ويختتم بفرحة غامرة من النوع الذي يستحيل أن يحصل في مناسبات ثقافية اعتيادية. أتساءل كيف لهذه الليالي الصيفية المتسارعة أن تتحلى بالهدوء قليلا كي لا ينتهي هذا الملتقى قبل أن أنتهي أنا من إكمال مواكبته الإعلامية وأتفرغ قليلا لمتابعة المونديال، للاستماع إلى سامي الزهراني وهو يتحدث عن تشكيلة هولندا، لتقديم الشكر إلى سيد عفيفي، وللتفاوض مع بائع السبح حول سبحة العقيق التي تشبه لون منتخبي المفضل، الكتابة عن جلسات الملتقى تتضمن متعة لا تقل عن مجرد لحظة العيش في تفاصيله، وبينما أذرع المكان جيئة وذهاباً من قاعة الندوات لجلسة الاستراحة، أفكر كيف يصبح العمل رائعا في وسط يكتظ بفنانين في منتهى الدلالة على هذه الكلمة، كم هو جميل أن تمر الأيام الثلاثة كاملة دون أن يتخللها أي اصطدام عرضي بطاقم طارئ لقناة مرتجلة، أو بنماذج متعالية ومتحذلقة من تلك التي تملأ مناسباتنا الثقافية.
أستمر في الرسم على ورقتي، بعد أن قدم ملتقى النص المسرحي أوراق اعتماده ليكون المناسبة الأولى من نوعها التي تقدم المكون الأدبي للمسرح وتعرضه لقراءات فنية ونقدية متعددة، وهي الفكرة التي لم تكن كافية لتقنع عددا كبيرا من المثقفين والأدباء بتشكيل 1 في المائة من نسبة الحضور التي يشكلونها في فعاليات أقل قيمة بكثير، وإن كان أمر كهذا لا يمثل سبباً مقنعاً لتأزم بني مسرح الذين لا يجبرون أحدا على مشاركتهم شغفهم ولا يراهنون على قيمة إضافية يضن بها غيرهم عليهم، فمجرد الانتماء لأبي الفنون سبب كاف ليبحث الجميع عنك، لا أن تبحث أنت عن أحد!
شباب اللجان المنظمة يؤدون أدوارهم باقتدار لافت، يثبتون أن ممارسة العمل بدافع الحب تختلف عن ممارسته بلا دوافع، تحيرني تفاصيل هذا الملتقى، لا يمكن تشكيل هذا التناغم الروحي بين الجميع خلال فترة قصيرة كتلك في أي مجتمع ثقافي آخر، يصبح من المستحيل هنا أن تختار شخصا بشكل عشوائي دون أن تكتشف أن المسرح يمثل قضية شخصية له، هؤلاء الناس يمارسون الفن في ذواتهم، ويعيشون شغفهم في الواقع، يمسرحون الأمكنة والشوارع والغرف والأرصفة، هم لا يحملون هما ثقافياً غير ملزم كما يفعل الآخرون، لكنهم يحملون هم المسرح تماما بالقدر الذي يمارسون به حياتهم الطبيعية.
كنت مشغولاً بالرسم على الورقة، وبإرسال مواد إعلامية، عندما كان المكان يزدحم بأسماء جميلة تستطيع الاكتفاء بواحد منها ليكون نموذجا يتحدث لك عن كل ما له علاقة بالفكر والفن والإبداع دون أن تشعر بأنه يتحدث عن شيء غير ذاته الإنسانية التي لا تختلف عن ذاته الثقافية، تحتاج إلى ثلاثة أيام فقط، لترى رئيس المسرحيين وهو يمارس تواضع القيادة، وتستفيد كثيرا من وقتك مع ناقد بحجم وقيمة محمد العباس، وتستمتع بصحبة مبدع استثنائي على نحو فهد الحارثي، وقت قصير جدا لكنه كاف لجمع أكبر قدر من جمال روح الدكتورة ملحة عبد الله، وسخرية السحيمي، وخبرة محمد العثيم، ولطف سامي الجمعان، وجنون مسرحيي الطائف، وحميمية أبناء الأحساء، لتحصل كذلك على كتب قيمة، منها سلسلة لنصوص مسرحية مهمة فعل محمد عابس كل شيء ليجعلها بين يدي الضيوف والمشاركين في الوقت المطلوب.
الورقة تمتلئ بتداعيات نفسية وشعورية معقدة، ملتقى النص المسرحي يختتم نفسه بتداعيات مشابهة، يصبح للموقف تأثيره في نفوس الحضور بدءا من الهذيل وانتهاءً بأبنائه المنظمين، لا يمكن وصف ذلك لكنه شيء يحدث فقط عند المسرحيين، نجحت الجمعية بشكل تستحق التهنئة عليه، واستطاع شخص كنايف البقمي - صاحب الفكرة ومدير الملتقى - أن يثبت مجددا أنه شخص عاجز تماما عن الفشل.. وبين مجتمع بهذا القدر من الترابط وأشخاص بكل تلك الرغبة والإرادة، لا تصبح أزمات المسرح مشكلة كبرى، فالأهم هو وجود عوامل يمكنها أن تبعث على التفاؤل..لقد قدم ملتقى النص نفسه للمسرحيين حلماً ومشروعاً، وأصبح التفاؤل بعده مشروعا.