فضيحة غير معقولة
لا يخفى على الجميع أن من الثقافات المنتشرة في المجتمعات ثقافة التجمهر، فكثيراً ما نلاحظ أثناء قيادة السيارة زحاما شديدا لا نلبث أن نكتشف أن سببه وجود حادث قد يكون كبيراً أو صغيراً، ولكن كل سيارة تمر بجوار هذا الحادث يحرص قائدها على الإبطاء فضلاً عن التوقف ليشاهد ماذا حدث، متجاهلاً ما قد يسببه توقفه من تعطيل لمصالح الناس أو تأخير أو وقوع حوادث أخرى.
ويتبع مثل هذا الفضول شغف معرفة الفضائح فلا يكاد كثير منا يسمع عن خبر ما إلا ويحرص على نشره وذلك من باب تأكيده أو تكذيبه أو لبيان حجم ما لديه من معلومات على الرغم من أنه قد لا يستفيد شيئاً، لكنه الفضول الذي يكاد يفتك بمجتمعنا سواءً من خلال نشر الأخبار غير الموثوقة من خلال الصحف والمجلات والقنوات أو من خلال شبكة الإنترنت والمجموعات البريدية، وفي كل يوم يستقبل بريدنا الإلكتروني عشرات الأخبار التي قد تكون وهمية ومع ذلك فنحن نقوم فور وصولها بتحويلها مباشرة إلى مجموعات أخرى للاطلاع عليها، بل أصبحت مثل هذه الأمور أداة تهديد في يد البعض، فيكفي أن تختلف مع أحدهم ليقوم بإعداد رسالة وتنسيقها ووضع بعض الأدلة الكاذبة فيها ثم يطلق لها العنان لتنتشر انتشار النار في الهشيم غير مبال بما قد تحدثه من عواقب وخيمة.
في أحد الأفلام التي عرضت على إحدى القنوات يقوم أحد المجرمين باصطياد ضحاياه ويضعهم في مكان أشبه باستديو للتصوير ليعرض من خلاله على موقع إلكتروني على الهواء مباشرة طريقة قتلهم، وكلما زاد عدد الذين يدخلون إلى الموقع زادت سرعة تنفيذ الجريمة.
فموت الضحية مرتبط بشكل مباشر بعدد الذين يدخلون إلى الموقع، وعلى الرغم من علم هؤلاء أنهم بدخولهم لموقع فيه جريمة قتل وأن دخولهم على هذا الموقع سيسهم في إسراع عملية القتل إلا أن الموقع يلقى إقبالاً غير عادي ويتسارع الناس للدخول عليه ليشاهدوا هذه الضحية وهي تموت تدريجياً بأيديهم ولا يملك أحد أن يفعل أي شيء، فموقع الجريمة غير معروف ومع ذلك يشارك فيها أفراد من كل أنحاء العالم، وما إن تم القبض على هذا القاتل إلا ورأيت الإقبال على الموقع قد انحسر وتلاشى.
لقد غدت الصحافة الصفراء التي تنهج منهج نشر أخبار الإثارة والجرائم والفضائح هي الشغل الشاغل لكثير من المثقفين والإعلاميين اليوم، وأصبح سوق إبراز الخلافات ونشر التعليقات الشاذة هو السوق الرابح بل أصبح النجاح كل النجاح أن تتمكن من جمع المختلفين والتشهير بمقولة كل منهما في الآخر من نقد وتجريح وإساءة ولو صاحب ذلك كذب وغش وبهتان فكل ذلك للكثيرين إنما هو مادة إعلامية دسمة ستلقى رواجاً كبيراً، وسيحرص الناس على متابعتها بل قد تدفع الأموال في سبيل التعرف على تفاصيل أكثر عنها.
إن ما يدعو إلى الحزن والأسى أن كثيرا من مجتمعاتنا اليوم أصبح لا هم لها إلا الاطلاع على جرائم القتل والاغتصاب والتحرش، وعلى الرغم من وجود بعض الجوانب الإيجابية في معرفة مثل هذه الحوادث لأخذ الحيطة والحذر والتعرف على مشكلات مجتمعنا إلا أن أسلوب طرح هذه القضايا لا يقتصر على هذا الجانب بل يتعداه إلى التشهير والإثارة الضارة التي كثيرا ما تبتعد عن الدقة والمصداقية.
إن تتبع أخبار الناس والتجسس عليهم حرام في ديننا، ومن يقوم بنشر مثل هذه القضايا وتتبعها فعليه أن يتقي الله فيما بين يديه، وعلينا كجهات إعلامية ورقابية أن نحرص على وضع ضوابط وقوانين أمنية واضحة لنشر مثل هذه القضايا التي قد تحدث من خلالها جرائم واستغلال من قبل ضعاف النفوس، كما يجب علينا السعي نحو تغيير ثقافة المجتمع في التعامل معها والتحذير من عواقب مثل هذه الأفعال ونتائجها التي قد لا نراها ولا نشعر بها لو شاركنا في مثل هذا التجمهر الإلكتروني، الذي قد يكون من يقوم به في يوم ما هو نفسه ضحية لمثل هذه القضايا.