الجوانب الأخلاقية في المعاملات المالية
ربط بعض فقهاء المسلمين مفهوم البطالة والتعطل عن العمل بالكسل وعدم السعي في طلب الرزق، وهذا المفهوم عرضه الفقيه محمد بن عبد الرحمن الوصابي اليمني الحبيشي في كتابه "البركة في فضل السعي والحركة"، حيث عرّف البطالة "بأنها الكسل عن العمل لكسب الحلال، أو الكسل عن القيام بأمر الآخرة"، وكان السبب الرئيس في تصنيفه كما يقول مؤلفه "لما رأيت أهل بلدتنا هذه في الكد مجتهدين، وعلى الاشتغال بالحرف معتمدين، مواظبين على ذلك معتضدين، وصاروا إذا رأوا أهل الرفاهية في البلدان، وراحة الرجال فيها والنسوان .. استنقصوا أحوالهم، وازدروا أفعالهم؛ ظنّاً منهم بأن الدعة والسكون أمر فاضل مسنون، كأنهم لم يبلغهم قول الرسول ــ صلى الله عليه وسلم ــ حيث يقول: "إن الله لا يحب الفارغ الصحيح، لا في عمل الدنيا ولا في عمل الآخرة". أحببت أن أشرح لهم في هذا الكتاب ما يسلي قلوبهم، وينفس كروبهم، من فضائل الصناعات، وأنها للأنبياء عادات، ولا مراء أن أهل علم الأبدان مجمعون على أن الحركة والسعي والنشاط الجسمي سبب رئيس للحماية من كثير من الأمراض، وإضفاء البهجة والسرور على النفوس، وتلاشي الكآبة والحزن من الأعماق».
والربط بين البطالة والكسل يدفع إلى وضع سياسات لعلاج البطالة، بل علاج الاقتصاد برمته، ومن هنا عالج الإسلام البطالة من خلال معالجته مصادر الاقتصاد، حيث شرع لهذه المصادر أحكاماً خاصة تحفز الإنسان على العمل وترك الكسل، كما تزيل كل المعوقات التي تحبطه وتمنعه من الإنتاج والعمل والجد والكسب، وبذلك ضمن عدم وقوع المشكلات الاقتصادية، إلا أن ما يميز كتاب الحبيشي هو التركيز على الجانب السلوكي والأخلاقي في العمل والسعي، فقد ركز في كتابه على الجوانب الإيمانية والأخلاقية في المعاملات المالية، وذكر مجموعة من الشروط التي يجب توافرها حتى يكون العمل مقبولا على المستويين الديني والاجتماعي كذلك، ومن أهم هذه الشروط: أن يكون العمل الاقتصادي حلالا بعيدا عن الشبهة، وذلك وفق مقتضيات الشريعة الإسلامية ومحدداتها، وأن يخضع المال المكتسب لقواعد الزكاة وصرفها لأهل الصدقات، الذين يستحقونها، وليس ذلك فقط، بل إن هناك التزامات أخرى يفرضها المجتمع على المال الذي للناس حق فيه، ويجب تأدية الالتزامات المالية الأخرى غير الزكاة، وذلك استجابة لحديث الرسول ــ صلى الله عليه وسلم ــ حين قال:"إن في المال لحقا سوى الزكاة" ثم قرأ قوله تعالى: "وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل"، ولم يتوقف الحبيشي عند شروط دفع الزكاة والصدقات وما يستحق على المال، بل تعدى إلى الشروط الأخلاقية، التي يرى أنها مما يزيد الرزق ويجعل السعي في سبيله مقبولا، ومن هذه الشروط؛ المواظبة على الصلوات المفروضات وتأديتها في الأوقات المعروفات، ومعرفة ما لا يستغنى عنه من أصول الاعتقادات والعلوم الشرعية. والأكثر من ذلك فإن الحبيشي وضع شروطا تتعلق بالأخلاق وحسن المعاملة، ومن ذلك كما ورد عنده؛ حسن صحبة الإخوان، والقيام بما يجب من حقوق الأهل وسهولة الإنفاق على القرابة، والإقلاع عن النميمة والغيبة، ومجانبة أهل الارتياب، والمواظبة على تلاوة الكتاب والقيام بما يجب لله ورسوله وللأصحاب، ثم أشار إلى العدالة فيما بعد الموت فرأى أن من شروط السعي الحلال والكسب الحلال أن لا يحيف صاحب المال عند موته في وصيته.
وبعد أن ذكر هذه الشروط التي اعتبرها شروطا إيمانية لقبول الأعمال الاقتصادية، عرض بالتفصيل للشروط والأركان أو العناصر التي تقوم عليها أو تتأسس بها البركة في السعي، لأن هناك شروطا لصلاح العمل وشروطا لصلاح الكسب. وتبدو هذه الشروط غير متعلقة بالشروط الموضوعية للتجارة من حيث رأس المال والأرباح وما يتعلق بهما، بل هي شروط تخص الجانب الأخلاقي السلوكي وحصر هذه العناصر في أربعين عنصرا وهي: تقوى الله والتوكل عليه، كثرة الاستغفار، والمحافظة على الصلاة وإقامتها بالخشوع، والمواظبة على حضور الجماعة، لا بل ذهب لأكثر من ذلك حين اشترط المواظبة على صلاة الضحى، والمواصلة بين المغرب والعشاء بالذكر وقراءة القرآن، واشترط الزيادة من النوافل كصلاة الوتر وسنة الفجر وقيام الليل والاجتهاد بالعبادات، والاجتهاد بالطاعة، كما يجب على الساعي بالعمل أن يخرج الصدقة ويحسن في الإنفاق، والمباركة في الصدقة، والتحلي بصفات البر وصلة الأرحام والرفق وحقوق الوالدين، والمواظبة على الوضوء، والإكثار من الصيام المفروض والنوافل، والاعتكاف في المساجد، ودفع الأموال من أجل بنائها وعمارتها، والحرص على الذهاب للحج والعمرة لمن استطاع، وتلاوة القرآن، وعدم الإكثار من الكلام بما لا يعني ولا يفيد، وترك الغيبة والنميمة، والتبكير في طلب العلم والرزق، والتزوج وطلب الولد، والإكثار من حمد الله تعالى وشكره، والإكثار من الصلاة والتسليم على النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ والإحسان إلى اليتيم، والتيسير على المعسرين وأصحاب الحاجات، وزيارة الضعفاء والغرباء وإكرامهم، وطلب العلم، والاجتماع والألفة وحسن المداراة والصحبة، المواظبة على الدعاء بالخير للنفس وللناس، وعدم نسيان ذكر اسم الله في جميع الأعمال، والسلام عند دخول البيت، واختيار السكن المناسب والمواضع المعهودة بالبركة، والتجارة والسفر لابتغاء الرزق، واتخاذ الغنم، اتخاذ النخل؛ وكل ذلك يحتاج إلى حسن التدبير، وكيل الطعام وتقويته والاجتماع عليه ومراعاة آدابه، والتوسعة على العيال، وإكرام الضيف وتقديم الطعام ومراعاة آدابه، والشراب وآداب الضيافة، تسمية الولد محمدا أو أحمد، والالتزام بمجموعة من الآداب التي دعا إليها الإسلام، ومنها: المشورة ومنها الاستعانة بالله، واجتناب منع الماء وسب الريح والبغي والربا والخيانة والاحتكار، ومنع قطع الشجر المنتفع به في الطرق ونحوها.
هذه هي الشروط الإيمانية والأخلاقية لقبول الأعمال الاقتصادية والمالية، أي الركن المعنوي، فيما يخص العمل والسعي في طلب الرزق، كما يراها الحبيشي في كتابه.