آثار التغيير في جمهوريات آسيا الوسطى
الكارثة الإنسانية التي يعيشها جنوب قرغيزستان, التي بلغ عدد ضحاياها حتى الآن أكثر من مليون شخص بين قتيل وجريح ونازح ومشرد، تعبير حقيقي عن الوضع المائع الذي تعيشه جمهوريات آسيا الوسطى التي استقلت اسمياً عن روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي في مطلع تسعينيات القرن الماضي, ولم تستغل فعلياً بسبب رفض المجتمع الدولي ذلك الاستقلال ورؤية مثل تلك الأشكال من الدول. الحرب الإثنية الدائرة بين القرغيز والأوزبك الممولة من قبل أطراف كثيرة لها مصالح في اشتعال هذه الجبهة, وفي هذا الوقت بالذات، هي حرب مرشحة للاستمرار والانتقال من مكان إلى مكان طالما أن بذور الحرب والتوتر موجودة في كل الجمهوريات الواقعة في وسط آسيا, التي حرصت أوروبا وأمريكا على تركها هكذا دون علاج بعد تفكك الاتحاد السوفياتي في الوقت الذي وجدت فيه بقية الجمهوريات, خصوصاً الأوروبية منها كل رعاية وعناية من جانب أعداء السوفيت الذين عملوا على إسقاط ذلك النظام الذي كان يعد القطب الثاني في معادلة الحرب الباردة.
جذور مشكلة القرغيز والأوزبك والطاجيك والأذريين والشيشان وغيرها من إثنيات آسيا الوسطى تعود إلى سياسة القادة البلاشفة الذين وجدوا في عملية التهجير حلاً لترسيخ أقدام جمهوريتهم القائمة على سحق كل الأجناس المنضوية تحت عباءة الاتحاد عدا العرق الروسي الذي قامت على أساسه الثورة ومن أجل تمجيده وصبغ كل الجمهوريات بلونه. ستالين الذي اعتمد سياسة التهجير كان يرمي من وراء تلك الهجرات القسرية إلى خلق نوع من عدم التوازن في هذه الجمهوريات التي ورثت اليوم نتائج تلك السياسة الرامية إلى إحداث الخلل السكاني لاستخدامه وقت الضرورة كما هو اليوم.
الجريمة السوفياتية القديمة لم تجد من يصححها بعد الإعلان عن استقلال هذه الجمهوريات التي لم تهب عليها رياح التغيير كما هبت على بقية الجمهوريات السوفياتية السابقة, خصوصاً الأوروبية منها. التغيير الذي رعته الولايات المتحدة وأوروبا بعد نهاية ما عرف بالحرب الباردة كان يقوم على ميزان المصالح وأيضاً الإثنيات والأعراق والأجناس, فسكان وسط آسيا لم يكونوا من ضمن أولويات هذه الدول في التغيير حين تم التغاضي عن الزعامات الشيوعية الحاكمة في تلك الجمهوريات التي لم تسقط ولم تتعرض للتهديد بعد انقضاء العهد الشيوعي على غرار ما تم في شرق أوروبا وشرق الاتحاد السوفياتي أيضاً. حيث كان من الملائم جداً بالنسبة لسياسات الولايات المتحدة الإبقاء على تلك الزعامات التي تحولت نظرياً إلى الديمقراطية وإلى اقتصاد السوق لمسايرة المتطلبات العالمية التي لم تطالبها بما طالبت به غيرها لوجود خصوصية تميز هذه المنطقة من العالم عن غيرها التي استفاد الاتحاد السوفياتي السابق من خيراتها ومواردها الطبيعية الضخمة من دون أن يوليها أي رعاية واهتمام أسوة ببقية مناطقه التي كانت أقل من حيث الثروة من تلك الجمهوريات التي رزحت طوال العهد السوفياتي تحت خط الفقر, وكانت أيضاً مسرحاً لتجاربه النووية والعلمية ومغامراته التي طالت حتى مياه الأنهار التي جف معظمها بسبب تحويل مجراها عن أراضي هذه الجمهوريات التي لم تستفد من ثروات باطن الأرض ولا مما يزرع فوق الأرض.
الأمم المتحدة كعادتها لا تحب التدخل في الأمور التي تعتبرها شأناً داخليا, حيث تبادر في كل مرة إلى الدعوة لإجراء تحقيق دولي حول الأحداث الذي ينتهي في العادة إلى لا شيء, أو في أحسن الأحوال إلى تحديد الطرف المعتدي الذي سيكون هذه المرة إما الأوزبك أو القرغيز على الرغم من أن الطرفين هما ضحية السياسات الأمريكية والروسية والأوروبية وأيضاً السوفياتية السابقة.
من المؤسف أن تتوالى مثل تلك النكبات على شعوب العالم, خصوصاً المسلمة منها التي تجد نفسها في كل مرة أمام كارثة إنسانية شنيعة تودي بحياة الآلاف إن لم يكن الملايين في تزامن مبرمج يهدف إلى ضرب كل القوى البشرية المسلمة, سواء كانت تلك القوى واعدة أو فاعلة أو مجرد تجمعات بشرية كبيرة ما زالت ترزح تحت قسوة الظروف التي حرمتها من التعليم والرعاية الصحية ومن أبسط أنواع الخدمات التي باتت في متناول جل البشر في شرق الأرض وغربها.
لن تكون الحلول بالنسبة لمشكلة الجنوب القرغيزي مختلفة عن كل الحلول السابقة التي لن تخرج عن التعليمات الواردة في الأجندة الدولية التي تعتد كل الأراضي الرازحة تحت الاحتلال الغربي الفعلي مجرد أرض عمليات حربية لن تجد طريقها إلى السلام والأمان طالما أنها لا تزال تسكن من قبل الشعوب المسلمة التي عليها دفع ثمن فتوحات المسلمين الأوائل الذين يعاقب أحفادهم اليوم على ما اغترفته جيوشهم الجرارة التي دخلت لتلك المناطق وتمكنت منها ومن أهلها ونشرت الإسلام فيما بينهم.