ربع ساعة بتوقيت «طوارئ الكهرباء»!

لم تكن شمس الجمعة قد أشعت تماماً، عندما قرر أحد أهم عناصر الحياة الحديثة في العالم أن ينطفئ كلياً في منزلنا مستخدما في ذلك فاصلا مشوقاً من التردد «التياري» الذي لا «يتردد» كثيرا قبل أن يعيد تشكيل العلاقة بين حواسك ومحيطها، وهو بذلك يمثل خيار المقاومة اللحظية التي ستنشأ في مخيلتك وأنت تتوقع الأمر عابرا في بداية الأمر قبل أن تهرع لإطفاء أجهزتك الأقل قدرة على تحمل مزح من هذا النوع، سيراودك الشعور نفسه بالخطورة الوشيكة وأنت تمد يدك إلى الزر وتعيدها في جزء من الثانية دون أن يحولك هذا التصرف إلى جسد يشع من داخله هيكل عظمي  أصفر اللون كما تخبرنا أدبيات الرسوم المتحركة!
كان ذلك جزءا فقط من الطريقة التي فكرت بها الكهرباء كي تضفي بعض التشويق على وتيرة صباح مسالم في غرب الرياض، لم يستغرق منها الأمر كثيرا من «الفولتات»، كل ما فعلته أنها  وضعَت سلكاً سلبيا على آخر إيجابي وقلبت شحناتها يمنة ويسرة، قبل أن يضيء مصباح الفكرة في مخيلتها وتقرر إحداث تغيير نوعي في دورة اليوم الطبيعية لأسرة من سبعة أشخاص ليتعين عليهم في تلك اللحظة تحديدا أن يختبروا تجربة الحياة في القرون الوسطى!
وبالنسبة لأناس تقر ثقافتهم جزئيا فكرة «حني الرأس» أمام «التيار» ، يكون من الممكن اتباع هذا التصرف لاعتبارات «تكتيكية» آنية، تأخذ الكهرباء على قدر»شحناتها» قبل أن يعود الرأس ليرتفع بعد مرور عاصفة «كهرومغناطيسية» عابرة، لكن الأمر يختلف هذه المرة، فالمطلوب هو أن تفصل «فيش» بالك، وتخفض رأسك ممتثلا لصبرك فقط حين تعلم أنه لم يعد ثمة تيار أصلا، فيما التكتيك الوحيد المتبقي لديك هو أن تعيد اكتشاف هواء «الحوش» كـ طاقة بديلة، وأن تعتمد على حاسة اللمس - الصديقة للبيئة - في تطوير تقنية جديدة للبحث عن متعلقاتك داخل غرفة مظلمة دون الاعتماد على ضوء هاتفك النقال.
تصبح للمنزل قيمة أخرى دون كهرباء، وتصبح للنوم خصوصية أخرى، وتصبح للبحث عن أشيائك غير الضرورية أهمية أخرى تفوق أهميتك بالنسبة لمهندس صيانة لا يرى في تنفيذ خدمة عظيمة لك في تلك اللحظات أمراً ضرورياً، بحلول السادسة صباحاً، يكون قد مرّ على اتصالنا الأول بخدمة «طوارئ» الكهرباء ساعة بالضبط، وهي مدة تزيد بعشر دقائق تقريبا على تطبيقنا المبعثر لتجربة الإخلاء المنزلي مباشرة بعد الانتهاء من استمتاعنا بعرض الصوت والصورة الذي قدمته ألسنة اللهب من صندوق «عدادنا» العتيد، وهي اللحظات التي لا تستطيع فيها إيجاد فارق كبير بين ظاهرة صوتية أو كارثة، إنها لحظات ترنح الخوف فوق حبل احتمالات لا يتمتع بحس دعابة كافٍ للاطمئنان فضلا عن الضحك!
ربع ساعة وتصل الصيانة، الوقت يمر بطيئا بأحداث متصاعدة، وكأن الصوت نفسه يقول: عند «الشرارة» .. تكون الساعة .. السادسة اختناقاً، و25 لهباً، و14 جزءا من الهلع، إنه الوقت الذي تقف فيه إكباراً واستغراباً حيال الجيران الذين يتقنون عملية الخروج الجماعي دائما خلال لحظة واحدة وفي أي وقت يمكن أن يخطر على بالك، هذا الدعم يمثل قيمة دينية وأخلاقية رائعة - رغم عدم تأكدي من وجود حث صريح على أن تحدث هذه القيمة  بسرعة تفوق ما هو متوقع عادة - إنها فرصتك لتشعر بحميمية العلاقة الكامنة مع الأشخاص الذين كنت تكتفي بإلقاء التحية المهندمة عليهم في الظروف الاعتيادية قبل أن تضطر لجعلهم يرونك بأكثر حالاتك خصوصية «منزلية» حين تخرج للشارع في ظرف ثانيتين ونصف الثانية من حالة السكون في سريرك الوثير .. طبعا لن تنسى شعورك الخاص في لحظة افتراض الحريق حين تغادر غرفتك وفي بالك إنقاذ بعض الأشياء!
ساعة وربع مرت منذ أن قال موظف «طوارئ» الكهرباء إنه قادم خلال ربع ساعة، خلال هذا الوقت تكفل الجيران بإعفاء مكالماتنا المستعجلة من استدعاء الإطفاء، وعقد أبناء الحارة قمة طارئة على الرصيف للتباحث في موضوع لم يكن في بال أحدهم حتى وقت قريب، كان بيتنا قد تحول إلى ما يشبه غرفة العمليات عندما بدأت أفكر في حجم العدالة الموضوعية بين انطفاء المكيف واشتعال العداد، إنها ثنائية الحر والبرد التي تدفعني للتساؤل: إن كانت الكهرباء قد اتخذت قرارها ذلك بكامل قواها «الفولتية» فما الذي يدفع النار أن تقوم بعمل مضاد مبالغ فيه ومنتزع تماماً من سياق حكاية ينطفئ كل ما فيها تدريجيا، إذا استثنينا الشمس التي كانت تتصاعد بتدريج معاكس يصاحبها وفد حراري عالي المستوى؟ التفكير في تبادل الأدوار الكوني هنا لا يلغي أن الوقت يمر باتجاه الساعة الثانية فالثالثة بعد السادسة، دون أن يكتمل ربع الساعة أو يصل المؤتمرون على رصيف بيت جارنا «متوكل» إلى صيغة بيان ختامي بسبب اختلاف الأطراف حول فكرة أن يكون الإفطار معصوباً أو قلابة بالشطة!
أياً يكن، الكهرباء لن تأتي من تلقاء نفسها، هذا يلغي فرضية الترقب المعتادة ولا سيما في وجود عداد كهربائي يشعر بالتهميش لدرجة أنه فجر نفسه بدم بارد، هي لن تأتي كذلك من تلقاء غيرها، تعليق الأمر «بالطوارئ» يصبح تصرفا عديم الموضوعية مع الوقت حتى بعد تكرار الاتصال وتسجيل بلاغات متتالية، الحقيقة أنهم جاهزون دائما ومتأهبون للمساعدة وهم يرون في هذه الجاهزية مساعدة كافية لنا، أليست الأعمال بالنيات؟
إذا كنت مرغماً فاستمتع، هل سبق أن جربت هذه المقولة عمليا؟ إن كنت تستخدم الكهرباء في الظروف الحالية فإن فرصة تطبيقك لهذه النظرية تبدو كبيرة جدا، النوم المؤجل يدرك تماما عدم مسؤوليته عما يحدث، كما أن الساعة البيولوجية لجسم الإنسان لا تشعر بأي التزام أدبي أو أخلاقي تجاه ساعة «الانتظار» حسب التوقيت المحلي لطوارئ الكهرباء، ستعرف الآن فقط أن مكيف الهواء يمثل مرتكزاً حياتياً في صيف الرياض الذي يدخل اليوم فقط مرحلة يدعى فيها باللاهب، وأن البحث عن شقة مفروشة سيكون خيارك التالي بعد أن تفشل في تجربة كل الأماكن والوضعيات التي تحاول بها أن تجعل من البيت مكانا قابلا للاستخدام الآدمي في تلك اللحظة ..انقطاع الكهرباء لا يدعك دون أن يفصل فيك بعض الأسلاك وينهض بأعصابك إلى تردد 220، قدرة الاحتمال تتلاشى تدريجيا، اختناق الحواس يتصاعد، الهواتف تفقد طاقتها، والأطعمة والأدوية تواجه مصيرا غامضا داخل الثلاجة - يتضمن ذلك خروفا انضم إلى المكتبة الغذائية في الأمس فقط - الجو الساخن ينزع مشروعية أي شعور بالراحة، والواقع العام للحال يرغمك على أن تهرب من كل شيء في الأثناء التي  تعيش بها صورة متخيلة لعالم لم يولد فيه توماس أديسون.
لم يمض الكثير على أي حال، إنه يوم كامل فقط، وأنا أكتب من شقة «طوارئ» تشهد المحاولة الأولى لأسرة مكونة من سبعة أشخاص لبداية أسبوع طبيعي من خارج منزلهم، كان بإمكانهم الانتظار حتى الغد فربع الساعة مازال قائما، والجيران مستعدون للقيام دائما بعمل عظيم من أجل جيرانهم، في أسرع وقت ممكن!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي