«سأضرب بالعدل هامة الجور والظلم»

إن أوجه قراءة الأمر الملكي الكريم بشأن نتائج التحقيق وتقصي الحقائق في فاجعة سيول محافظة جدة متنوعة؛ ففيه طور جديد من شفافية المواجهة للفساد المحتمل، وهو ميزان العدل في رعاية حقوق المجتمع والأفراد على حد سواء. أسبغت مقدمته وحيثياته على بنوده وفقراته روح المسؤولية وعظمة الأمانة، إنه يقول باختصار: ''الوطن والمواطن أولاً''.
سأقف أمام البند ''أولا'' من هذا الأمر الملكي؛ حيث اشتمل على ثلاث فقرات هي:
1- إحالة جميع المتهمين في هذه القضية إلى هيئة الرقابة والتحقيق وهيئة التحقيق والادعاء العام كل فيما يخصه بعد استكمال قضاياهم من جهة الضبط الجنائي استناداً إلى المواد (24، 27، و28) من نظام الإجراءات الجزائية, وذلك للتحقيق فيها واستكمال الإجراءات النظامية بحقهم, ويؤخذ في الاعتبار المسارعة في ذلك.
2 - استكمال التحقيق مع بقية من وردت أسماؤهم في التقرير أو المطلوب سماع أقوالهم أو من يتطلب التحقيق استدعاءه في فاجعة سيول جدة, وذلك من قبل الجهات المختصة في وزارة الداخلية.
3 - فرز أوراق مستقلة لكل من وردت أسماؤهم في التحقيق وليس لهم علاقة مباشرة بمسار فاجعة جدة وإحالتهم لجهات التحقيق المختصة.
لقد كرس الأمر الملكي مبادئ العمل المؤسسي لإجراءات العدالة الجنائية؛ فلم تنتزع أعمال لجنة التحقيق والتقصي، على تنوع تشكليها ورفعة مستواها، الاختصاص الأصيل لجهات الضبط الجنائي والتحقيق والمحاكمة, فالمواد المذكورة في الفقرة (1) تندرج تحت الفصل الأول (جمع المعلومات وضبطها)، من الباب الأول (إجراءات الاستدلال) من نظام الإجراءات الجزائية. ولا يسمح المجال بتفصيل المدلول الإجرائي والقانوني لهذه المواد، غير أنها مجتمعة تنظم إجراءات جزائية في مرحلة جمع المعلومات، هي أساسية لمرحلة التحقيق والمحاكمة، وصولا للحقيقة ورعاية لحقوق جميع الأطراف.
ويؤكد الأمر الملكي الكريم ضمنا أن أنظمتنا القانونية ومؤسساتنا العدلية هي أهل للثقة حتى بأدق القضايا والأزمات؛ هي قادرة على التصدي للأزمات الاستثنائية، وإن ضعفت مبادرتها وخبراتها. إرادة ولي الأمر تعكس ثقة عميقة بهذه المؤسسات، ثقة تحمل هذه الجهات مسؤولية كبرى ليس في هذا الملف فقط؛ وإنما هي مسؤولية تمتد لكل ما عهد به إليها. إذا كانت لديها الصلاحيات النظامية؛ فما الذي حال أو يحول بينها وبين مواجهة أوجه القصور قبل حدوث الفاجعة؟ من أو ما الذي غل أو يغل يدها عن مواجهة ذلك؟ لا أعتقد أنه يوجد أي حائل يحول دون ذلك سوى ضعف المبادرة وغياب الأولويات. الأمر الملكي وجه هذه الجهات بأن تأخذ في الاعتبار المسارعة في ذلك. وإن كانت ''ذلك'' تعود نصا إلى ما أشير إليه في الأمر؛ فإنها ضمنا توجيه بالمسارعة في أداء واجباتها وتحمل مسؤولياتها دوما.
وراعى الأمر الملكي أوجه العدالة في البحث عن الحقيقة استدلالا وتحقيقا ومحاكمة؛ فالمتهم بريء حتى تثبت إدانته، مهما كان هول الفاجعة، ومهما بلغ الاحتقان العام ضد الفساد والفاسدين. حملت عبارات الأمر الملكي مضامين العدل والحياد، وألقت بأمانة التحقيق والمحاكمة على عاتق الأجهزة المختصة؛ فالحقيقة في ذمتها، ونحن جميعا في انتظار وفائها بأمانتها، ونرجو ألا تطول الإجراءات، وأن تكون المحاكمات والأحكام علنية وفقا لما نص عليه نظاما الإجراءات الجزائية والمرافعات الشرعية.
الأمر الملكي ليس قواعد تنفيذية أو معالجة منحصرة في هذا الموضوع؛ وإنما هو مبادئ للعدل وتوجيهات للعدالة، مضامينه خريطة طريق للسلطات الثلاث: القضائية والتنفيذية والتنظيمية، لأداء واجباتها تجاه الوطن والمواطن. إنه استنهاض للهمم والعزائم الشريفة، وخذلان لمن قصر أو يقصر في أداء الأمانة. هو باختصار من صور الوفاء بعهد خادم الحرمين الشريفين - يحفظه الله - عندما قال: ''سأضرب بالعدل هامة الجور والظلم''.. فهل من مُدّكِر؟

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي