كيف يمكن «ضبط» الإعلام الجديد؟ (2)

في العقود الأولى من القرن الـ 20 تزايد النقد تدريجيا نحو الإعلام في أمريكا وبريطانيا، ويفترض أن يقوم بدوره النموذجي في المجتمع، بينما كان واضحا أن الإعلام يخضع تدريجيا لرغبات الأقلية من الناس التي تمتلكه وتتحكم فيه. في الأربعينيات والخمسينيات الميلادية، بدأ الحديث بشكل واضح عن الرقابة الذاتية وعن تحمل الإعلام مسؤوليته نحو المجتمع الأمريكي، وجاءت الفرصة مواتية لتحويل هذه النظريات إلى مبادئ عملية لما كان على الحكومة الأمريكية تنظيم منح رخص بث إذاعات الراديو (وهي أول مرة يتم فيها الترخيص للإعلام في أمريكا) وذلك لأهمية توزيع موجات البث على جهات محدودة فقط من ناحية هندسية. في هذا الوقت عملت هيئة الاتصالات الفيدرالية الأمريكية على وضع قواعد لإلزام محطات الإذاعة بها، كما صدرت هذه القواعد بالاتفاق مع عدد من المنظمات غير الحكومية والمهتمة بحرية الصحافة، وكونت هذه القواعد الأساس الجوهري لنظرية ''المسؤولية الاجتماعية'' Social Responsibility Theory، ويمكن تلخيص هذه القواعد كالتالي:
1- دعم نشر المحتوى الموضوعي والصادق، والفصل الكامل بين المعلومة والرأي.
2- تحويل الإعلام لساحة للنقد المتبادل والنقاش ونقد المجتمع بما يعود بالفائدة على المجتمع.
3- تمثيل كل فئات المجتمع ومحاربة كل أشكال العنصرية والتمييز ضد أي فئة لأي سبب.
4- تمثيل قيم المجتمع عموما واحترامها.
5- أن يتحول الإعلام لوسيلة للجمهور للحصول على المعلومات.
هذه البنود تحولت بشكل ما لما يشبه العقد بين وسيلة الإعلام والمجتمع، ويحتم على وسيلة الإعلام احترامه، ويعطي للمجتمع حق عقاب الوسيلة إذا لم تحترمه.
إن تطبيق نظرية المسؤولية الاجتماعية على واقع الإنترنت لدينا يعني أمرين اثنين:
الأول: لا بد من نشر ثقافة واضحة ودقيقة حول ما ينبغي وما لا ينبغي فعله على الإنترنت. مثلا لا بد من إيجاد رؤية واضحة حول التشهير بالأشخاص ومتى يعد نشر المعلومات تشهيرا ومتى يعد إعلاما أو كلاما شخصيا. هذه القواعد تحتاج إلى رؤية جماعية يقودها الأكاديميون والإعلاميون، ويتم نشرها في كل الوسائل وبكل الطرق، وتصبح أمرا مسلما متعارفا عليه في الوسط الإعلامي والتكنولوجي. الخطوة التالية تأتي في عقاب مزدوج لمن يخالف هذه القواعد، عقاب اجتماعي يتم من خلال هيئة أو هيئات غير رسمية لتقييم ما ينشر على الإنترنت التي يفترض أن تقدم توبيخا وربما غرامات وعقوبات على المواقع التي تخالف هذه القواعد، حيث يتحول الإخلال بالنظم وما تتطلبه المسؤولية الاجتماعية لمواقع الإنترنت إلى إساءة حادة لموقع الإنترنت وصاحبه، يهرب منها كل أحد. إن نشر هذه الثقافة يتطلب تعاونا وثيقا واتفاقا واضحا بين المؤسسات الحكومية المختصة، والمؤسسة الأكاديمية، والمؤسسات التي تحمي قيم المجتمع كالمؤسسة الدينية والتربوية، والمفكرين والكتاب، والهيئات الشبابية، ووسائل الإعلام الكبرى، التي يجب أن تبحث عن نقاط الاتفاق الرئيسة وتحولها إلى مسلمات يتم إقناع المجتمع بها بكل وسيلة ممكنة.
الأمر الثاني مرتبط بإيجاد أنظمة تحدد مواقع الإنترنت التي تخضع للقانون، والدولة التي ترتبط بها نظاما، وفي رأيي الشخصي فإن وضع نظام لإصدار تصريح للمواقع عند إطلاقها، أمر فاشل تماما لأن الموقع يمكن أن يستضاف في أي دولة في العالم ويحرر من أي مكان في العالم دون وجود أي ارتباط بينه وبين الدولة التي تتم زيارة الموقع فيها أو بين المجتمع المتضرر من ممارسات تلك المواقع. لقد فشلت هذه الأنظمة عندما حاولت بعض الدول تطبيقه في السابق رغم وجود قرارات صارمة بشأنه، وهذا الفشل هو ما يفسر تمهل كثير من الدول العربية بما فيها المملكة قبل إصدار نظم وتشريعات تحكم مواقع الإنترنت.
إن الحل في رأيي يقوم على التركيز على التحكم في الآليات التي تمثل مصدرا لدخل الموقع، فإذا كان الموقع يريد قبول إعلانات من الشركات الموجودة في دولة ما (المملكة مثلا) أو يريد قبول شراء لأي شيء معروض في تلك المواقع فعليه أن يحصل على تصريح من تلك الدولة. هذا النظام قد يضعف سرعة نمو خدمات التجارة الإلكترونية والتسويق الإلكتروني والإعلان على مواقع الإنترنت، وسيركز على المواقع الكبرى فقط، ولكنه بالتأكيد أفضل من إخضاع كل مواقع الإنترنت لقوانين متشابهة، الأمر الذي لن ينتج عنه إلا هجرة جماعية – كما قلت سابقا - للمواقع الصغيرة إلى أخذ مكانها على موقع ''فيسبوك'' أو ''يوتيوب'' أو غيرهما من المواقع العربية والعالمية.
مثل هذه الأنظمة لها إيجابياتها التي يمكن أن يدركها أصحاب المواقع لأنها ستسمح بتنظيم سوق الإعلان وتسمح بإيجاد أنظمة تحمي المشتري على مواقع الإنترنت وغير ذلك من الإيجابيات، كما يمكن التقليل من السلبيات إذا كانت التصاريح والإجراءات غير روتينية وتتم خلال ساعات فقط، لأن وجود البيروقراطية والتعقيد في الأنظمة ينتج عنه دائما هرب الناس من التعقيد إلى وسائل إعلام أخرى مفتوحة وذات شعبية واسعة.
في النهاية أتقدم بالعزاء والاعتذار لأولئك الذين سيشعرون بالحزن لفقدان الحرية المذهلة الموجودة في الفضاء الافتراضي، وأنا أشاركهم هذا الإحساس وأهديهم هذه المقولة الأمريكية التي تعود لعام 1994م وأختم بها: ''دخول الفضاء الافتراضي هو أشبه ما يكون بالعودة إلى الـ Wild West (وهو مصطلح يطلق على عالم الكاوبوي الحر المطلق في أمريكا خلال القرنين الـ 19 وبداية القرن الـ 20). هذه الحياة البرية لا تدوم مطلقا، ولذا من الأفضل الاستمتاع بها قبل أن تختفي''.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي