المهاجرون .. عبء اقتصادي أم محرك للنمو؟
في خطابها في الندوة السنوية لمجلس الاحتياطي الفيدرالي في "جاكسون هول " أثنت رئيسة البنك المركزي الأوروبي كريستين لاجارد على دور العمالة الأجنبية في دعم نمو اقتصاد منطقة اليورو. هذه الكلمات لها صداها القوي وبالأخص في وقتنا الحالي، حيث تتعالي الأصوات المعادية للمهاجرين في أوروبا مع صعود تيارات أقصى اليمين، جاءت كلمات لاجارد لتثير تساؤل مهم، هل ألقت الهجرة بضغوط وأعباء على الدول المستقبلة، أم انها كانت حائط صد ومحرك أساسي لتنشيط الأسواق.
ففي وقت تعاني فيه القارة العجوز من أزمة ديمغرافية ناتجة عن انخفاض المواليد وارتفاع الشيخوخة ونقص في العمالة، ظهر المهاجرين كطوق نجاة للاقتصاد الأوروبي. في ألمانيا أكبر اقتصاد في القارة تشير التقديرات أن الناتج المحلي الإجمالي كان سيكون أقل بنسبة 6% مما كان عليه في 2019 دون العمالة الأجنبية، في إسبانيا كان المهاجرين العامل الأساسي خلف الأداء الاقتصادي القوى منذ نهاية جائحة كورونا.
في الولايات المتحدة يظهر الأثر الاقتصادي للعمالة الأجنبية بصورة أكثر وضوحًا، ففي عام 2024 بلغت مساهمة المهاجرين في الناتج الإجمالي نحو 2.1 تريليون دولار. خلال نفس العام شكل المهاجرين ما يقرب من 19.1% من إجمالي القوى العاملة في الاقتصاد الأمريكي.
هذه الأرقام توضح لماذا يتغنى صناع السياسات المالية والنقدية في كل المناسبات بدور المهاجرين، فبعد تحييد الأراء الشعبوية مع تصاعد تيارات اليمين السياسي والتي ترى في الهجرة خطر يهدد الأمن والاستقرار والتماسك الاجتماعي، نجد أن الاقتصادات لم تتحمل أعباء مقارنة بالمكاسب التي تضيفها موجهات الهجرة للاقتصاد. من ناحية يسد المهاجرون النقص الحاد في العمالة الناتج عن تباطؤ النمو السكاني وبخاصة في المهن الشاقة مثل التشييد والبناء والزراعة، وهو ما يسهم في السيطرة على ارتفاع الأجور وكبح جماح ارتفاع مستويات الأسعار.
على جانب أخر فالمهاجرين منشط رئيسي للاستهلاك الذي يشكل الجزء الأكبر من الناتج المحلي في الاقتصادات الكبرى، إضافة إلى المساهمة في دعم الميزانيات الحكومية عبر الضرائب المستحقة الذين يقومون بتسديدها والتي ترفع الإيرادات العامة، كما كان للمهاجرين دور كبير في دعم القدرة التنافسية للاقتصادات الغربية التي فقدت جزء من بريقها في ظل المنافسة الصينية.
تسهم الهجرة في رسم المستقبل الاقتصادي للدول المتقدمة، عن طريق دعم الابتكار في مجالات حيوية مثل التكنولوجيا والرعاية الصحية وغيرها. ففي الولايات المتحدة يشكل المهاجرون ما يقرب من 25% من رواد الأعمال، كما أن نحو 46% من الشركات في قائمة "فورتشن 500" قد تم تأسيسها بواسطة مهاجرين أو أبناؤهم. في قطاع الرعاية الصحية شكل المهاجرون نحو 16% من إجمالي عدد الممرضين في عام 2023.
ولذلك فأن مخاطر التضييق على الهجرة سواء القادمة أو المستقرة ستكون عواقبها كبيرة على أسواق العمل والنمو الاقتصادي، وذلك في وقت تعاني فيه الدول من صدمات عديدة ناتجة عن أزمات عالمية غير مألوفة سواء على الصعيد الجيوسياسي أو التجاري. بجانب بوادر ركود اقتصادي داخلي نتيجة لضغوطات ناشئة عن ضعف الاستهلاك، وأزمات الطاقة، والانكماش السكاني، وضوابط الإنفاق وارتفاع الديون.
وسيكون على أوروبا وغيرها من الدول المعتمدة على الهجرة بناء السياسات التي ترسخ المكانة الاقتصادية للمهاجرين وتعمل على دمجهم في المجتمعات، وفي نفس التوقيت تعالج المخاوف التي تساور البعض والمتعلقة بالأمن والتأثير في القيم الاجتماعية.
وبشكل عام الهجرة ضرورة اقتصادية، لكنها لا تنجح سياسيًا واجتماعيًا إلا إذا كانت مدعومة بتصميم أنظمة تُوفر سيطرة واضحة على الحدود، وتُخفف من الآثار المحلية، وتُوائِم طرق الدخول مع الإستراتيجية الاقتصادية للنمو ولا تعتمد فقط على تقليل الأعداد. إضافة الى إيقاف تام للهجرة غير الشرعية وإلا فالحكومات تخاطر بعدم تمييز المواطنين بين الهجرة الشرعية والهجرة غير الشرعية - وأحدهما يأتي بتكلفة على دافعي الضرائب ويأثر في الرأى العام.
في الختام فقد كانت الهجرة حل فعال في التغلب على الأزمة الديمغرافية التي ضربت دول الشمال المتقدمة، حيث عوضت النقص في الأيدي العاملة ونشطت أسواق الاستهلاك ودعمت الابتكار. وفي ظل النقص في الكفاءات المحلية يحتاج الغرب إلى برامج مبتكرة تجذب المواهب الخارجية، على غرار برنامج "بطاقة الفرص" الذي أطلقته ألمانيا لجذب العمالة الماهرة لتغطية العجز في سوق العمل. مع ضرورة أن تشمل تلك البرامج حوافز مالية وأخرى تتعلق بالإقامة وإصدار التأشيرات، وبرامج لتعلم اللغة وأخرى لتعميق الاندماج في الثقافة المحلية.
مستشارة اقتصادية