لماذا الطاقة النووية؟
كتبت قبل نحو عشرة أشهر عن بعض الحقائق المقلقة المتعلقة بوضع الطاقة الكهربائية في بلادنا كما سمعتها من المهندس عبد الله الحصين وزير الكهرباء والمياه. وكان مما قاله المهندس الحصين إن استهلاكنا من الطاقة الكهربائية ينمو بمعدل 8 في المائة سنويا، وهي نسبة تفوق بكثير المعدلات المعتادة في عدد من دول العالم. فاستهلاكنا يفوق استهلاك نيجيريا التي يبلغ عدد سكانها سبعة أضعاف عدد سكان المملكة، كما أنه يعادل الطاقة المركبة الكاملة لثلاث دول مجاورة! وهذا المعدل العالي في الاستهلاك يعني أن علينا مضاعفة إنتاجنا من الكهرباء كل عشر سنوات! وسيبلغ حجم استهلاكنا للطاقة الكهربائية بحلول عام 2020 نحو 60 ألف ميجاواط بتكلفة تقدر بنحو 30 مليار ريال سنويا. وبجانب حاجتنا لمواكبة نمو الطلب، لا بد لنا من استبدال كل محطة مضى عليها 40 عاما بمحطة جديدة، وهذا وذاك يستلزم موارد مالية هائلة!
وما انفكت شركة الكهرباء عندنا تبذل جهودا سنوية مضنية لتواكب هذه الزيادة الهائلة في الطلب على الطاقة الكهربائية، فمشاريع التوسعة مستمرة على الرغم من تكاليفها العالية. وهي تبذل جهودا لتوفير الأموال اللازمة لهذه التوسعات، إلا أن خطط التوسعة الحالية لن تكون كافية إذا استمر نمو الاستهلاك بمعدلاته الجارية، وهو أمر مقلق. ولنا أن نتصور، أنه على الرغم من أهمية الكهرباء في حياتنا مقارنة بأهمية خدمات الهاتف الجوال، فإن عوائد شركة الكهرباء لا تتعدى 14 مليار ريال، فيما ناهزت عوائد شركات الاتصالات 46 مليار ريال، وأغلبها يأتي من حصيلة خدمة الهاتف الجوال!
وتحدي الطاقة لا يقتصر على الكهرباء، بل تعداها ليشمل النفط. فاستهلاكنا منه ينمو بمعدلات مرتفعة، فقد أصبحنا نستهلك نحو ربع إنتاجنا من النفط. وإذا استمر معدل النمو على هذا النسق فسنجد أنفسنا في غضون عقدين أو ثلاثة نستهلك نصف إنتاجنا منه. وهذا يعنى أننا سنفقد نصف موارد الخزانة العامة التي تغذي بقية مشاريع التنمية في بلادنا! والأخطر أن التطور العلمي قد يتوصل خلال العقود القليلة المقبلة لبدائل جادة للطاقة لا تجعل للنفط قيمة تذكر!
استهلاكنا المفرط لموارد الطاقة الكهربائية والنفطية يفرض علينا ضرورة النظر في توطين بدائل الطاقة الأخرى كالطاقة الشمسية والنووية وطاقة الرياح ونحوها. لقد غدا توليد الطاقة من مختلف البدائل يتوسع سنة بعد أخرى في جميع أنحاء العالم، ولا ينبغي في ظل هذه الحقائق أن نتخلف عن الركب العالمي بدعوى توافر النفط في بلادنا. فأوروبا أعلنت منذ نحو عام عن مشروع عملاق بتكلفة 400 مليار يورو لمدها بالطاقة الكهربائية المتولدة من الطاقة الشمسية المستمدة من منطقة الشرق الأوسط ليغطي فقط 15 في المائة من احتياجاتها. وهناك اليوم نحو 440 مفاعلا نوويا في مختلف أنحاء العالم تستخدم لإنتاج الطاقة تسهم في إنتاج نحو 20 في المائة من كهرباء العالم، بل إنها تسهم في توفير نحو 70 في المائة من حاجة بعض الدول من الطاقة كما في فرنسا. وكان لا بد لنا من البدء في إنتاج الطاقة النووية. فمع أن تكاليفها الإنشائية عالية، إلا أن تكاليفها التشغيلية متدنية مقارنة بالطاقة الكهربائية، فمن الناحية الاقتصادية يمتاز المفاعل النووي بالاستمرارية وطول العمر. واليورانيوم - وهو مصدر الطاقة النووي - متوافر بكثرة وبكثافة عالية وهو سهل الاستخراج والنقل. في حين أن مصادر الفحم والبترول محدودة. يضاف إلى ذلك أن المحطات النووية من الممكن أن تستمر في تزويدنا بالطاقة لفترة طويلة بعد قصور مصادر الفحم والبترول عن تلبية احتياجاتنا. إن كمية الوقود النووي المطلوبة لتوليد كمية كبيرة من الطاقة الكهربائية هي أقل بكثير من كمية الفحم أو البترول اللازمة لتوليد الكمية نفسها. كما أنه لو تم الاعتماد على الطاقة الشمسية لتوليد معظم حاجة العالم من الطاقة لكانت تكلفتها أكبر بكثير من تكلفة الطاقة النووية.
كما تمتاز محطات الطاقة النووية بأنها جيدة ومحكمة التشغيل بأنها تنتج أقل كمية من النفايات مقارنة بأي طريقة أخرى لتوليد الطاقة، فهي لا تطلق غازات ضارة في الهواء مثل غاز ثاني أكسيد الكربون أو أكسيد النتروجين أو ثاني أكسيد الكبريت التي تسبب الاحتباس الحراري والمطر الحمضي والضباب الدخاني. ومن مزايا المحطات النووية المولدة للطاقة، أنها تشغل مساحات صغيرة نسبياً من الأرض مقارنة بمحطات التوليد التي تعتمد على الطاقة الشمسية أو طاقة الرياح. إن الاهتمام بالتقنية النووية لا يساعدنا فحسب على توفير الطاقة الكهربائية وتقليص استهلاكنا من الطاقة النفطية، بل إن لها فوائد مؤكدة ومهمة جدا في مجالات حيوية أخرى لا تقل أهمية عن توفير الطاقة ذاتها. إذ إن لها تطبيقات مهمة في تحلية مياه البحر، وفي بعض التطبيقات الزراعية والصناعية والطبية. فالإشعاعات النووية تستخدم في مجال الدراسات الجينية، ومعظم التطورات الحاصلة في الحقل الزراعي هي ''تطورات جينية''، ولا يمكن تغيير الجينات إلا بإشعاع نووي. كما أنها تستخدم في تقنية المياه ودراسات التربة وإنتاج بذور جديدة من المحاصيل، وتستخدم أيضا في النقل كتسيير البواخر، وفي علاج بعض الأمراض المستعصية التي تتطلب الحصول على مواد مشعة وهي تحتاج بدورها إلى مفاعل نووي.
لكل ذلك، فإن وجود مؤسسة تعنى بإقامة ورعاية هذه المفاعلات سيفتح الباب واسعا أمام البحوث العلمية المتقدمة في مجال التقنية النووية. وليس صحيحا أن التقنية النووية مرتبطة بتقدم الدول أو حجمها، بل هي مرتبطة بوجود برامج وأهداف محددة ترعى هذه التقنية. فهناك دول صغيرة لديها برامج طموحة استفادت من الطاقة الذرية في توليد الكهرباء وتحلية المياه وفي بعض الميادين الطبية والصناعية.
ولكل هذه الاعتبارات وسواها جاء الأمر الملكي بإنشاء مدينة الملك عبد الله للطاقة الذرية والمتجددة، لتؤسس لقاعدة علمية تعمل على تطوير البحوث واستقطاب الكفاءات وبناء الخبرات وتأهيل الكوادر البشرية القادرة على التعامل مع التقنية النووية لتسهم في دفع عجلة التنمية المستدامة في بلادنا، واستخدام نتائجها في حل مشكلاتنا وتحسين مستوى ونوعية الحياة في بلادنا.
وما من شك أن من أهم أسباب تقدم الدول في يوم الناس هذا هو قدرتها على التعامل مع التقنية الحديثة، حيث تشكل التقنية النووية جوهر ساحاتها. حياتنا المعاصرة تتوقف على الطاقة، واستمرار اعتمادنا على الموارد الهيدروكربونية الناضبة مقلق، وبناء المشاريع يستغرق وقتا، وفوائضنا المالية لن تدوم، ومن الخطر ترك المفاجآت تدهمنا، وما نزرعه اليوم سنحصده في الغد!