مهرجان الشموع
في غرفة مظلمة، أشعل عود ثقاب، ستحصل على شيء من الضوء الذي سيضيء ظلمة الغرفة، ويمنحك شيئا من الحرارة والطاقة، وقبل أن يكتمل استمتاعك بهذا الضوء وهذه الحرارة، ستقضي الشعلة على عود الثقاب سريعا، وينطفئ الضوء، وتندثر الطاقة.
أشعل عود ثقاب آخر، ستحصل على ضوء وحرارة، وقبل أن تأتي النار على العود، قربه من شمعة، ستضيء الشمعة، وستحصل على ضوء أكبر وأدوم، وستستمتع بحرارة وطاقة أقوى وأثبت، وستبقى الشمعة مضيئة يوما أو بعض يوم.
أشعل عود ثقاب ثالث، ستحصل على ضوء وحرارة، وقبل أن تأتي النار على العود، قربه من شمعة، ستحصل على ضوء وحرارة، يوما أو بعض يوم، وقبل أن تنطفئ الشمعة، قربها من شمعة أخرى، وثانية وثالثة ورابعة وعاشرة، حتى يكون عندك مئات الشموع، وقبل أن تنطفئ أي شمعة، قربها من شمعة ثانية، وسيكون عندك مهرجان شموع يمدك بضوء وحرارة لا تنتهي.
عود الثقاب، هو الفكرة المتألقة الجديدة التي تتقد في ذهن إنسان، فتملأ عقله نورا وحرارة، الخطوة الأولى دائما في كل إبداع. لا يمكن أن يكون أي إنسان مبدعا أو منتجا أو خلاقا بدون أفكار مبدعة خلاقة.
ولكن الأفكار سرعان ما تتبخر طاقتها وتتناثر قوتها إذا لم تتلبس في إنسان مخلص فعال يترجمها إلى الواقع. ذلك الإنسان هو الشمعة، التي تترجم من خلالها الأفكار المبدعة إلى حقائق ملموسة على أرض الواقع، وتتحول من خلاله المعاني الرائعة إلى مشاريع حقيقية وبناء مادي واقعي يراه الناس ويحسون بوجوده بينهم.
غير أن قدرة الإنسان محدودة مهما عظمت، طاقته تنفد مهما اتقدت، ولا بد في إحدى مراحل الطريق من الفتور والضعف ألم يكن اليأس والزوال. وهنا يأتي دور كتيبة الشموع التي يدعم بعضها بعضا، هي المؤسسة، التي تدعم الأفراد المتميزين وتتبناهم وتمدهم بالدعم والتشجيع، وتضمن استمرار اشتعال فكرتهم ونمو مشروعهم وتوالي ثمراتهم إلى المدى الذي يتجاوز أعمارهم المحدودة وطاقاتهم الناضبة.
لا يمكن أن تقوم نهضة من دون أفكار مبدعة، وأفراد يترجمونها على أرض الواقع، ومؤسسات تتبناها وتدعمها.
المجتمع الفقير في الأفكار الخلاقة المبدعة، ليس له أمل تقدم حقيقي، هذه الأفكار في حاجة إلى مناخ حرية منفتح تولد فيه الأفكار المبدعة وتتنفس وتنمو دون خوف أو تردد، وتحتاج إلى تعليم متميز يرعاها ويمدها ويوجهها، وتحتاج إلى صقل وتطوير وتنافس شريف في ظل فرص متساوية مبنية على الجودة والتميز. ولكن الأفكار الخلاقة المتميزة وحدها لا تكفي من دون أشخاص مخلصين متفانين شجعان يتبنونها، أشخاص لا يتميزون بالإخلاص والتفاني فحسب بل بالقدرة المبدعة على ترجمة هذه الأفكار إلى واقع وتحويل هذه الأحلام إلى برامج عملية وإدارتها إلى أن تحقق نتائجها الملموسة. ويأتي هنا دور المؤسسة الفعالة القوية التي تحتضن هؤلاء المبدعين فتوفر لهم الغطاء والماء والهواء والغذاء والدواء، تتكاتف بين أحضانها السواعد، وتتلاقح الأفكار، ويشد القوي من أزر الفاتر، ويأخذ الهمام بيد العاجز.
لنعد الآن إلى تلك الغرفة المظلمة، مهرجان الشموع هذا، إنه ليس نهاية رحلة الإبداع، لا بد أن يسري عليه ما يسري على الشموع الفرادى من حاجة إلى رعاية مستمرة، وتدعيم باللهب، واستبدال للشموع المنطفئة بشموع جديدة، ولو حدث تقصير في هذه الرعاية فإن مصير مهرجان الشموع سيكون نفس مصير الشمعة الواحدة، ينطفئ أيضا.
هي إذن، عود ثقاب، وشمعة، ومهرجان شموع، هي إذن، أفكار مبدعة، وأفراد فعالة، ومؤسسات قوية داعمة، تتجدد باستمرار وتتوفر لها مصادر دعم مستقرة، هذه هي المعادلة الذهبية والأركان الثلاثة لأي مجتمع يريد أن ينهض ويكون له شأن.