الرشاقة وعوالمها
لا نريد الدخول في متاهات اللغة, فالرشاقة ببساطة تعني التخلي أو الأحرى التخلص من الزوائد التي تشكل عبئا وثقلا على حاملها, ولكثرة الزوائد في حياتنا إلى حد الذي ضاع فيها الأصل وحضر الزائد صار بعضهم يتحدث عن الرشاقة وكأنها علم كبقية العلوم الأخرى. بل لعل ما يصرف على الرشاقة وما يستثمر في تصنيع منتجاتها يفوق كثيرا ما يصرف على العلوم العتيدة من كيمياء وفيزياء وفلك وغيرها. فلا تجد إنسانا يتكلم عن الصحة العامة إلا يربط ذلك بموضوع الرشاقة. السمنة اليوم أصل الداء وموضع البلاء, بل بات هناك من يحذر من أن السمنة وما تسببها من أمراض ومشكلات صحية بدنية ونفسية ربما تطيح باقتصاد حتى أكبر الدول وأغناها. ماذا يعني وجود أكثر من 60 في المائة من السكان البالغين أناس بدناء, فالدول العشر الأكثر نسبة من البدناء تضم بينها دولا غنية وعظمى ودولا متوسطة الحال وأخرى فقيرة وصغيرة في حجمها, ففي أمريكا هناك ما يقارب 200 مليون بدين يعيشون فيها, ثلثهم وصلت بهم السمنة إلى حد المرض. أما التكلفة الاقتصادية لهذه الزوائد الجسمية, التي تسمى السمنة التي تبدو ظاهرة أكثر في ترهل البطون والأرداف تصل سنويا إلى أكثر من 100 مليار دولار, نصفها تكلفة مباشرة نظرا لما تسببه السمنة من أمراض وعلل صحية, ونصفها الآخر تكلفة غير مباشرة تعزى إلى أن السمنة تقلل من نشاطات الإنسان البدنية والذهنية, فهو في الغالب ثقيل في حركته وبطيء في تفكيره وغير متحمس في نشاطه. إذا كانت أمريكا وألمانيا تمثلان المرتبتين الثالثة والرابعة من بين أكثر شعوب العالم زيادة في الوزن, فإن بريطانيا تأتي في المرتبة العاشرة وفيها ما يقارب 60 في المائة من السكان البالغين بدناء وهي الأخرى تكلفها السمنة ما يقارب من 20 مليار جنيه سنويا. حتى إن أحد المختصين الإنجليز كتب معلقا على هذا الخبر بأن الشعب البريطاني أكثر شعوب العالم حبا لمشاهدة الرياضة, لكنه من أسوئها في ممارستها. ومن الدول العربية احتلت مصر المرتبة الخامسة عالميا, وأما المرتبتان الأولى والثانية عالميا فكانتا من نصيب دول كاريبية صغيرة, حيث وصلت نسبة السمنة فيها إلى ما يقارب 100 في المائة, فلنا أن نتصور شعبا بأكمله بدناء. هذه الصورة السوداوية للسمنة في العالم تعطينا الحق فعلا للمطالبة بتدريس الرشاقة كعلم في رياض الأطفال والمدارس والجامعات, فإذا كانت 10 في المائة من الأمراض السرطانية المعروفة اليوم هي سرطانات لها علاقة بالسمنة, وأن السمنة تزيد من نسبة الإصابة بأمراض القلب إلى ما يقارب أربعة أمثال مع كل زيادة درجة واحدة في مقياس السمنة, وأما عن علاقة السمنة بمرض السكري من النوع الثاني, فإن الإنسان البدين تزيد نسبة إصابته بالمرض إلى مقدار 20 ضعفا من الإنسان النحيف, وهذه الحقيقة تفسر لنا هذا الارتفاع الصاروخي لمرض السكري في المملكة ودول الخليج, الذي هو على وشك أن يصنف على أنه وباء. ويزيد الخبراء بأن الإنسان البدين ربما يموت مبكرا في حدود 11 سنة من معدل عمره وهو نحيف. هذه الحقائق المذهلة هل تجعلنا نفكر فعلا في جعل الرشاقة مادة دراسية ملزمة في كل المراحل التعليمية لأنه إذا استمر الحال عندنا على ما هو عليه الآن وصار الواحد منا ضعف أو ضعفين من وزنه المعتاد فستهتز الأرض من تحتنا لا لتخرج لنا ماء وبترولا, بل كوارث وأمراضا.
أما الرشاقة على مستوى البيئة فالأمر بات مخيفا على المستوى العالمي, فحرارة الأرض ترتفع وبارتفاعها تذوب الثلوج في شمال الأرض وجنوبها, وتموت الأشجار وتختفي الغابات لتحل محلها مزيد من الصحاري وتزداد الأعاصير المدمرة قوة لتخرب المدن ويموت بسببها عشرات الألوف من الناس, ويرتفع سطح البحار لينذر بالغرق والكوارث القادمة لكل من هو قريب من هذه البحار, ويزداد تلوث الهواء بفعل ما تقذف به الملايين من السيارات والمصانع من غازات ضارة, فأقل التقديرات تقول إن نحو 50 ألف إنسان يموت سنويا مبكرا بمقدار تسع سنوات بفعل هذا التلوث, وهذا يعني أن البشرية تفقد من عمرها نحو 450 ألف سنة من عمرها. أما المخلفات الصلبة من نووية وغيرها فلقد ضاقت الأرض بها, ونجد اليوم أن هناك سفنا ضخمة محملة بمثل هذه المخلفات وهي تجوب البحار والبلدان بحثا عن مدافن لهذه المخلفات, ولعل أكثر ما تقصده هي البلدان الفقيرة لتنزل حمولتها فيها ولتزيد فيها معاناة شعوبها الفقيرة. وأما ما يدفع من أموال مقابل استقبال هذه المخلفات فستعود من حيث أتت على شكل حسابات سرية في بنوك سويسرا وغيرها. وحتى الفضاء صار يعج بمخلفات الإنسان, حتى إن بعض العلماء بدأ يطالب الأمم المتحدة بإرسال مركبات لجمع هذه القمامة الفضائية والعودة بها إلى الأرض قبل أن تتحول هذه المخلفات إلى مصدر تهديد جدي ليس فقط للمركبات الفضائية والأقمار الصناعية التي تجوب الفضاء الخارجي, بل لما تشكله من تهديد لنا نحن سكان الأرض. ولم يعد التلوث مشكلة تخص البيئة الطبيعية من حولنا من تراب وهواء وماء, بل باتت البيئة الداخلية لبيوتنا ومساكننا هي الأخرى عرضة لمثل هذا التلوث, فنحن اليوم نعيش أكثر من 90 في المائة من عمرنا في بيئة داخلية, وعندما تتلوث هذه البيئة هي الأخرى بالملوثات والمخلفات والمواد السمية فإننا بالتالي نعيش في خطر لا نحس به, ونعيش في بيئة ملوثة ومهددة لصحتنا, ونحن نعتقد أننا في مأمن من هذا بعد أن استخدمنا كل ما في أيدينا للتحكم في هذه البيئة. الدراسات العلمية تحذر اليوم من أن البيئة الداخلية في مساكننا هي أكثر تلوثا بأضعاف ما هو موجود من تلوث في الخارج, بل إن نصف الأمراض التي تصيبنا هي نتيجة لتعرضنا إلى ما في بيوتنا من تلوث وهواء فاسد. هكذا أصبح كل شيء ملوثا وفاسدا وغير صحي, الأرض باتت تفقد خصوبتها بسبب حرارتها المرتفعة, والمياه بدأت تنحسر في باطن الأرض والأنهار وصار الإنسان يعلب المياه العذبة ظنا منه أنها أنقى وأصح من غيرها, ومن يدري لعل الوقت يأتي ونعلب الهواء النقي لنشتريه من الأسواق بعد أن يتأكد لنا أنه لا فرصة لنا للحصول على هواء نقي مباشرة من الطبيعة. كل هذا يحدث بسبب طمع الإنسان وإسرافه ونزعته الاستهلاكية غير المحدودة, فليس هناك نقص في الموارد الطبيعية وليس هناك قلة في الماء ولا في الهواء ولا في الأرض, لكن كل هذه النعم وضعت تحت يد الإنسان الرشيد وليس تحت الإنسان السفيه, فليس هناك مشكلة مياه بقدر ما هي مشكلة إدارة مياه, ولا توجد هناك مشكلة مخلفات بشرط أن يرشد الإنسان استهلاكه, فحاجاتنا كبشر إلى الطعام والشراب واللباس قليلة إذا كنا فعلا نستجيب إلى حاجاتنا الحقيقية, لكن المشكلة في كثرة رغباتنا ونزواتنا, وهذه لا حد لها, وهي التي تنتهي بالإنسان إلى الهلاك عاجلا أم آجلا, وكيف لا تتلوث بيوتنا وقد تحولت من مساكن نطلب فيها الهدوء والراحة إلى مستودعات لكثرة ما نضع فيها من أثاث, وباتت هذه المساكن صالات للعرض والتباهي لكثرة ما فيها من مقتنيات وما نستخدمه من أصباغ وألوان أكثرها مواد يدخل في تصنيعها مركبات كيماوية سامة تنبعث لتفسد علينا الهواء الذي نستنشقه في بيوتنا. مشكلة البيئة اليوم تهديد وتحد حقيقي أمامنا ولن نستطيع أن نواجه هذا التحدي إلا بأخذ مبدأ الرشاقة في استهلاكنا لما يسد حاجاتنا والترشيد في استنزافنا لما منحنا الله من موارد طبيعية. الترشيد في الاستهلاك دعوة إلى أن نكون أكثر رشاقة وألا نبالغ في الاستجابة لرغباتنا وشهواتنا, فالرشاقة تجعلنا أقل ثقلا على الأرض, وأما إذا ركبنا رؤوسنا ونظرنا إلى الطبيعة على أنها تعطينا من الموارد بلا حدود وتأخذ منا من المخلفات بلا حدود, فعندها سنكون مخلوقات ثقيلة عليها ويحق لها عند ذلك أن تثار لنفسها لترينا من العقوبات ما يعيد الرشد إلينا.
وهناك صور أخرى نحتاج إلى تفعيل علم الرشاقة فيها, فنحن اليوم نهتم بالشكل كثيرا حتى صرنا لا نفرق بين الحقيقة والوهم, صارت عندنا ثقافة تهتم أولا بالشكل, فصرنا نبني والكل منا يريد أن يجمع من الأشكال والتصاميم المختلفة وربما المتناقضة في بناء مسكنه وكأنه يريد أن يقول للآخرين ها أنا, وصارت صناعة التجمل وطب التجميل هي من أكثر الصناعات والمهن الطبية رواجا. صناعة المواد التجميلية باتت تتجاوز 100 مليار دولار سويا وتزداد بمعدل 20 في المائة سنويا, هذا الاندفاع للشكل على حساب المضمون والحقيقة سيكون له ثمن كبير على حياة الإنسان وسلامته, فنحن فعلا في حاجة إلى ترشيد هذا الاندفاع ومزيد من الرشاقة والتخفيف من هذا الاهتمام بالأشكال المزيفة, تقتلع الحدائق والغابات الطبيعية بادعاء إيجاد حدائق منظمة وأكثر جمالا, وتنفخ الشفاه وتورم العيون وتدبغ الجلود وكلها بحجج أن هذا إظهار للجمال وحب في الجمال.
نعم نحن في حاجة إلى الرشاقة وعلومها وفنونها للتخلص من كثير من المشكلات والأزمات التي تطبق على الإنسانية, وبقي نوع آخر من الرشاقة, وهو من أهمها وأكثرها حاجة للإنسان, وهي الرشاقة الروحية التي ستكون محور حديثنا في الحلقة المقبلة.