كيف نغرس المهنية؟
لنعترف، نحن نعاني مشكلة كبيرة في بيئة العمل عندنا، ألا وهي قلة المهنية!
المهنية تقتضي أن نلتزم بأصول وضوابط وأخلاقيات المهنة التي نمارسها وننتمي لها. أن نمارس أعمالنا بحرفية وإتقان، أن نمتلك القدرة وأن نحترم الخطوط الحمراء التي تفصل بين مصلحة العمل وبين مصالحنا الشخصية وعلاقاتنا الاجتماعية.
كم مرة مثلا حصل خلاف مهني بينك وبين أحد زملائك في العمل يتعلق بخلاف في وجهة نظر أو طريقة عرض أو تعيين شخص أو ترقية آخر؟ فإذا بهذا الخلاف المهني الذي كان من المفترض أن يبقى ضمن دائرة العمل يتحول إلى سبب للتوتر الشخصي بينكما وطريق لنيل أحدكما من الآخر والتربص له وترصد الفرص للرد عليه صاعا بصاعين. كم مرة تدخلت العلاقات الشخصية والأبعاد المناطقية والقبلية في تعاملاتنا في العمل؟ كم مرة تجاوزنا الأنظمة أو طوعناها لخدمة مصالحنا الشخصية؟
كيف حرصنا على المال العام والحفاظ عليه؟ هل نعمل أغلب الوقت بصرامة في تطبيق حذافير النظام ونحن أبعد ما نكون عن السبب الذي من أجله وضع النظام، فنحرص على التوقيع في أول اليوم ثم تمضي الساعتان الأوليان في الإفطار والهذر وتضيع الساعتان الأخيرتان في الغداء والصلاة وتوصيل العيال! هل نركز على تقييد حريات الموظفين بقوانين جامدة بغض النظر عن إنتاجيتهم والأعمال الحقيقية التي ينجزونها أم نقلل من تقييدهم ونفتح لهم مساحة الحرية بينما نشدد في محاسبتهم على النتائج؟
كم مرة نقيم أنفسنا تقييما دقيقا وصادقا؟ كم مرة نطلب ممن حولنا ممن هم دوننا أو على مستوانا أو أعلى منا أن يقيمونا ويبدوا لنا آراءهم الصريحة في أدائنا؟ كيف نشجع النقد في بيئة العمل عندنا وكيف نحفز العاملين معنا على أن يواجهونا بالحقائق دون مواربة أو تلطيف؟
قلة المهنية لن تخطئها عينك عند بعض موظفي المطارات الذي يأخذ أوراقك ويده الأخرى تمسك بجواله الذي يمازح من خلاله زميلا له وضحكاته تملأ المكان بينما يملأ الباقي دخان سجائر زميله الآخر. قلة المهنية ستراها عند بعض موظفي القطاعات العامة الذي يستهتر بالمراجعين ويعتبر الدوام فترة سجن إجباري لا بد أن يقضيها في مكتب معين بغض النظر عن العمل الحقيقي الذي يقوم به في هذا المكتب، ستجدها أيضا في رجل المرور الذي يرى أمامه سيارة تتجاوز الإشارة الحمراء في تحد سافر لأبسط مبادئ المرور أو يجد سائقا يضع طفله الصغير بينه وبين مقود السيارة ثم ينظر إليهم وكأن الأمر لا يعنيه. ومع بالغ الأسف، لن نعدم المهنية أيضا عند بعض الأطباء الذي يأتي متأخرا لعيادته، ينظر إلى المرضى شزرا، لا يعطيهم الوقت الكافي، وتجدها في أستاذ الجامعة الذي يدمج المحاضرة في محاضرتين والذي لم يطور محتويات محاضراته من سنوات ولم يقرأ كتابا أو بحثا في تخصصه منذ تخرجه، بل وتجدها في إمام المسجد الذي يتأخر على الناس ولا يحضر لخطبته ويقرأ من الخطب (المعلبة) التي لا تؤثر ولا حتى في الورق الذي كتبت عليه.
كل هؤلاء وغيرهم كثير، لا يحترمون مهنتهم، ولا يستحقون شرف الانتماء إليها.
قلة المهنية ستجدها أيضا في غياب ثقافة العمل الصحيحة مثل: العميل أولا، والعمل الجماعي، والتنافس الشريف، وتكافؤ الفرص، وتطوير الذات، واحترام الوعود، والثقة، وغير ذلك كثير.
المهنية أيها الأعزاء، تغرس مع الطفل في بيته عندما يرى تقدير والده لمهنته واحترامه لها، عندما يتعلم أن الوظيفة شرف يسعى له وليست حقا مكتسبا، فتتجذر في نفسه معاني احترام العمل وتقدير المهنة، وتنشأ مع الطالب وهو يرى أستاذه قدوة حقيقية في هذا المجال، وتنمو مع الموظف الصغير الذي يرى كل من حوله ملتزما بهذه المهنية فيلتزم بها طوعا أو كرها. المهنية تحتاج إلى نظام إداري يرسخ الثواب والعقاب ويعامل بعدل وإنصاف بناء على النتائج والمخرجات، المهنية تغذيها ثقافة عامة تقدس العمل والإتقان. المهنية باختصار، حضارة. إنها طريقة حياة.