هل أنت مؤثر في الآخرين؟

لماذا يستطيع بعض الناس التأثير في الآخرين بينما لا يستطيع البعض الآخر التأثير ولا حتى في نفسه أو أقرب الناس إليه؟
لماذا يشد بعض الخطباء الجمهور إليهم حتى لكأن على رؤوسهم الطير بينما ينام الجمهور ملء جفونهم وهم يستمعون إلى خطباء آخرين؟
لماذا يستطيع بعض المديرين إقناع موظفيه برأيه خلال جلسة سريعة بينما يحتاج البعض الآخر إلى سنوات لا ينجح بعدها في إقناع أحد برؤيته ولذا يضطر إلى فرضها عليهم بالقوة؟
لا شك أن الإجابة عن هذه التساؤلات قد تحتاج إلى كتب ودورات ومران طويل إضافة إلى شيء من الموهبة والاستعداد الفطري، ولكن معظم الأفكار التي تدور في هذا الفلك تصب في فكرة جوهرية محددة وهي أن الذين يستطيعون التأثير في الآخرين عندهم القدرة على مخاطبة العقل والروح معا.
هناك نظرية قديمة عند فلاسفة اليونان (ويوجد لها نظائر في جميع الديانات والحضارات فيما يبدو لي) تقول إنك حتى تؤثر في الآخرين لا بد أن تخاطب فيهم ثلاثة عناصر:
الأول هو (باثوس) Pathos وهي مخاطبة عواطفهم ومشاعرهم. وأفضل طريقة للوصول إلى قلوب الناس ومشاعرهم هي أن تفهمهم وتشعرهم بأهميتهم. ولا يمكن أن يتأتى لك ذلك إلا عن طريق الاستماع التفاعلي الجيد الذي تحاول فيه بصدق وفضول أن تفهم وجهة نظرهم وتعايش مشاعرهم وتضع نفسك مكانهم. كما تتحرك مشاعر الناس أيضا بربطهم بالقيم الدينية والروحية والقيم العليا في الحياة وكذلك عندما تربط ما تريد أن تقنعهم به بشيء عزيز عليهم في حياتهم أو شيء ذي قيمة مجتمعية كبيرة.
والعنصر الثاني الذي لا بد منه عند مخاطبة الآخرين إذا أردت أن تؤثر فيهم هو (لوغوس) Logosأو العقل والمنطق. فمهما حاولت أن تؤثر في عواطف الناس ومشاعرهم بالكلمات الرقيقة والمشاعر الضافية لا يمكن أن يكون تأثيرك فيهم قويا ومستمرا إذا كانت عقولهم غير مقتنعة بما تقول، ولهذا فكم من الخطباء المفوهين والمتحدثين البارعين يكون تأثيرهم على الناس ضعيفا ووقتيا لأن كلماتهم في الحقيقة تكون مجرد دغدغة عواطف ليس إلا وليست مبنية على أي منطق عقلي أو أنها بعيدة عن الواقع ومستحيلة التطبيق.
وأما العنصر الثالث والمهم جدا أيضا فهو (إيثوس) Ethos وهو أن تكون أنت في نفسك قدوة محققاً هذه المعاني التي تدعو إليها وهذه من أهم النقاط. فحتى لو استطعت تحريك مشاعر الناس بتفهمهم وإبداء الاهتمام بهم وحتى لو استطعت كسب عقولهم بإقناعهم بالمنطق والبرهان فإنك لا يمكن أن تؤثر فيهم إذا كنت أنت في نفسك قدوة سيئة تعيش حياتك بعيدا عما تنادي به وتدعو إليه.
إذا أردنا أن يكون لنا تأثير في الآخرين فلا بد أن يحتوى خطابنا على جرع متفاوتة من هذه العناصر الثلاثة. هي أشبه ما تكون بمكونات الطعام التي لا بد أن تكون موجودة كلها ولكن يمكن أن تختلف نسبها بحسب الحاجة. ففي بعض المواقف ومع بعض الناس يكون الإكثار من الخطاب العاطفي هو الحل وفي مواقف أخرى نحتاج أكثر إلى الخطاب العقلي ولكن ومع كل الناس وفي كل الأوقات نحن بحاجة إلى أن نعيش ما ندعو إليه في حياتنا حقيقة بقدر الإمكان.
ولو طبقنا هذه النظرية في التأثير في الخطاب القرآني لوجدنا أنها مطبقة في أبدع الصور وأجملها، فالقرآن مليء بالخطاب العاطفي والطرح العقلي معا بنسب متفاوتة بحسب الحاجة والموقف ثم تأتي سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - مثالا عمليا وقدوة حية على تطبيق هذه المعاني وما أحوجنا جميعا إلى التأمل في عبقرية هذا الخطاب.
وبعد، فالعجيب حقا أنني عندما تأملت هذه العناصر الثلاثة بعمق وجدت أنها ليست محورية في التأثير في الآخرين فحسب، بل مهمة أيضا إذا أردت أن تؤثر في نفسك أنت وتقنعها بشيء ما، فأنت بحاجة إلى أن تقتنع بالشيء وأن تكون متحمسا له شاعرا بأهميته، ثم أنت بحاجة ماسة أيضا إلى قدوات أمامك في هذا المجال تتمثل فيها هذه المعاني حية أمام عينيك.
هي إذن، قلب وعقل وقدوة، محاور التأثير في الآخرين وفي نفسك التي بين جنبيك.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي