الإنجازات العلمية تتحقق بالإصرار والجرأة.. أمريكا نموذجا (2 من 2)

في الجزء السابق تحدثنا عن محطات مهمة في تاريخ أمريكا العلمي وبعض الأمثلة ومفاتيح النجاح باقتضاب. واستكمالا لذلك، فثقافة أمريكا العلمية ومنهجها يعتمدان على مبدأ وضع الثقة بالعلماء والباحثين، فليس هناك فشل في قاموسها وأجندتها البحثية، وليس هناك حساسية من استقطاب العلماء من جميع بقاع الأرض، دون تميز جنس على آخر، فالفيصل عندها هو التميز العلمي والبحثي، فها هو العالم أحمد زويل، الحائز جائزة نوبل في الكيمياء عام 1999م عن أبحاثه في «الفيمتو ثانية»، يجري أبحاثه على الرغم من أن بعض العلماء الأمريكان الذين يعملون معه في المجال نفسه يشككون في النتائج النهائية لبحوثه، ولكن لم يتوقف دعمه بسبب هذا النقد أو التشكيك! فلم يقل أحد هذا عربي أو مسلم! أو ربما أبحاثه ونتائجها ستوجه يوما ضدنا! إضافة إلى ذلك، اختياره من قبل الرئيس الأمريكي أوباما ليكون ضمن أعضاء مجلس المستشارين العلميين والتقنيين الـ 20 التابع للبيت الأبيض مباشرة، والمعروف اختصارا باسم مجلس «بي. كاست» pcast. والذي من مهامه المساعدة في رسم مستقبل أمريكا العلمي والتقني من أجل اقتصاد قوي. إذن، إن تهيئة المناخ العلمي، وحرية البحث العلمي والأكاديمي والتقدير والاحترام والدعم المستمر هو جزء من مفاتيح النجاح.
فهاهو الرئيس الأمريكي مخاطبا العالمين العربي والإسلامي في جامعة القاهرة العام الماضي، بقوله: «إن هذا القرن هو قرن الابتكار والاقتصاد المبني على المعرفة، وهو المجال الذي تتسابق عليه الدول». وفي كلمة أخرى له في الأكاديمية القومية للعلوم الأمريكية التي تضم علماء ومهندسين، وتقدّم المشورة للحكومة الأمريكية حول قضايا العلم والتقنية، قال: «الولايات المتحدة ستنجز ذلك من خلال سياسات تتوخى الاستثمار في الأبحاث الأساسية والتطبيقية، وإيجاد حوافز جديدة للإبداع في القطاع الخاص، والترويج لاختراقات في حقلي الطاقة والطب وترقية تعليم الرياضيات والعلوم. ومن شأن ذلك أن يمثل أكبر التزام تجاه الأبحاث العلمية والإبداع العلمي في التاريخ الأمريكي». وقد علّق على كلمة الرئيس عضو الأكاديمية بيتر أجري - الحائز جائزة نوبل في الكيمياء في عام 2003م - هذه السياسات «هي ما نحتاج إليه للمستقبل»، وأيضا قال: «إن الاستثمار في الأبحاث والتطوير هو شبيه بإرسال أبنائك إلى المدرسة». فهذا تأكيد على أن أمريكا لديها استراتيجية، ورؤية واضحة، وشجاعة نابعة من إيمانها بأهمية البحث العلمي، فنفقاتها على البحث والتطوير العلميين بلغت 284 مليار دولار في عام 2003م، أي ما يعادل مجموع ميزانيات عدة دول! وقد أنشأت الحكومة الفيدرالية مؤسسة قومية للعلوم NSF تعنى بدعم أبحاث العلوم الأساسية (الرياضيات، وعلوم الحاسب الآلي، والعلوم الاجتماعية... إلخ) منذ 1950م، وقد خصصت لها ميزانية تقدر بـ 5.312 مليارا دولار لهذا العام 2010م، لكون القطاع الخاص (عادة) يحجم عن الاستثمار في هذا النوع من الأبحاث، لعدم وضوح المردود الاستثماري أو الجدوى الاقتصادية لها في المدى القريب، وقد تكون مجازفة كبيرة. وتتوقع هذه المؤسسة أنه بحلول عام 2015م ستستخدم تقنية النانو في نصف المنتجات الجديدة. أما دعم الحكومة الفيدرالية التقديرية للبحث والتطوير لهذا العام 2010م في تقنية النانو فتبلغ 1.637 مليار دولار، وفي مجال الشبكات وتقنية المعلومات 3.927 مليار دولار، ودعم الأبحاث المتعلقة بتغيير الطقس بـ 2.026 مليار دولار. أيضا، في هذا العام 2010م، خصصت وزارة الدفاع الأمريكية – البنتاجون - (79.1) مليار دولار من ميزانيتها للأبحاث والتطوير R&D، أي ما يعادل 11 في المائة تقريبا. فمن نتائج هذه الجرأة العلمية لأمريكا التفوق العلمي الذي يعكسه عدد براءات الاختراع، ففي عام 2008 حصلت أمريكا على 92 ألف براءة اختراع، وخلال الفترة من 1977 إلى 2008م حصلت على أكثر من مليوني براءة اختراع ما يزيد على نصف براءات الاختراع العالمي. أيضا، ومن مؤشرات هذا التفوق، حصل 320 عالما أمريكيا على جائزة نوبل غالبيتها في العلوم الأساسية (الفيزياء والكيمياء) والطب حتى عام 2009م، تليها بريطانيا بـ 116 جائزة وألمانيا بـ 103 جوائز.
فأمريكا مع إدراكها بأهمية البحث العلمي ودعمه فهي لم تغفل التخطيط السليم ورسم السياسات والتشريعات والأنظمة التي تضمن حفظ حقوقها وتفرض هيمنتها الدولية، وجرأتها العلمية (بكل تأكيد) هي التي جعلتها القوة العظمى في جميع المجالات سواء عسكرية أو مدنية. فلم تبخل قطعا في دعم الأبحاث العسكرية بشكل خاص، ولم تحرم مراكز البحث والجامعات والمؤسسات ذات العلاقة من المشاركة في إنجازها. فأمريكا تنفق 2.8 في المائة من دخلها القومي على البحث العلمي.
فثقافة أمريكا العلمية هي الإبداع والإنتاج، ثقافة تحويل الفشل إلى النجاح، ثقافة تحويل الخيال إلى حقيقة، ثقافة إدارة العقول البشرية المتميزة، ثقافة الإيمان بأهمية الشراكة بين مؤسسات الدولة والمؤسسات البحثية، النابع من إيمانها وإدراكها بأهمية البحوث العلمية وأنها في مجملها لها نتائج إيجابية أقلها تقديرا إسهامها في فتح آفاق علمية جديدة أو أداة لقياس التطوّر العلمي ذاته. فهذه هي الروح المميزة الحقيقية لأمريكا في تحقيق الإنجازات العلمية الكبيرة والمهمة. فلعلنا نستفيد من هذه الثقافة والجرأة في دعم الأبحاث من خلال مؤسسات أو مراكز بحثية ذات أنظمة وسياسات متطورة ترتبط فيما بينها بمستوى متقدم من التنسيق والتعاون لضمان التكامل وتوحيد الجهود، وليس التكرار، لتحقيق إرادة قيادتنا الرشيدة - حفظها الله - في الريادة العلمية العالمية، في ظل ما توفره من إمكانات تعليمية وبحثية كبيرة وتمويل وافٍ ودعم معنوي متميز، والله من وراء القصد.
فاصلة:
«الأعمال العظيمة تتحقق ليس بالقوة إنما بالإصرار».

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي