«الكروسان» ومآذن سويسرا.. العلاقة تاريخية
ربما يدعوك الفضول لأن تتعلم شيئا من فنون الطبخ وعمل المعجنات التي تساعدك على كسر الروتين الغذائي الذي يمارس عليك، ومن باب التغيير أيضا والبحث عن أسهل الأكلات وأفضلها، ولأننا اليوم صرنا نجد على الإنترنت كل ما نريد وما يخطر على بالنا، فإننا نجد مرادنا بأسرع الطرق وأسهلها، ولأنك تريد أن تكون أكلتك سهلة وغريبة في الوقت نفسه، فإنك تختار " الكروسان" تلك المعجنات المشهورة في بلادنا كما لو كانت من أكلاتنا الشعبية، وبالفعل تجد مرادك على كثير من المواقع، إذ يعلمونك طريقة الصنع وقبلها يعطونك المقادير، فما عليك إلا أن تضع الخليط الذي عجنته من المقادير المذكورة معاً في الماكينة ما عدا الملح والبلوك الزبدة، ثم خلطه على السرعة الأولى لمدة ثلاث دقائق، ثم يضاف الملح ويخلط لمدة أربع دقائق على السرعة الثانية ثم يترك خارج الماكينة على الرخامة لمدة عشر دقائق حتى تستريح العجينة مع وضع غطاء عليها، وهكذا تستمر الطريقة حتى يخرج لك شهيا ساخنا من تحت لهيب النار.
كل ذلك قد يحدث معك، لكن ما لم تتوقعه أن تجد هذه العجينة التي صارت لذيذة تتحول إلى وجع من نوع آخر، ليس وجعا في المعدة، بل في المشاعر والأحاسيس، لأنك ستقرأ بعد قليل في مواقع أخرى غير التي قرأت فيها سابقا، أن الكروسان لا يقف عند كونه عجينة شهية بمقادير، بل هو تاريخ أحزان وأوجاع كانت قد نسيت في غمرة طعمه اللذيذ، وتصبح مقادير صنعه أقدار أمم تصارعت على صناعة التاريخ قبل أن تعجن المقادير، واحترقت مساحات الزمن الحضاري قبل أن يشوى الكروسان ذاته في اللهيب، وتخفت رغبتك في أكله بعد أن تعرف أنه كان رمزا لسجل من الهزائم عند أمة، ورمزا لسجل من الانتصارات عند آخرين، ويبدو أنك ستعيد النظر في شهيتك المحمومة تجاه هذا الخبز المصنوع على شكل هلال، لأن كلمة "كروسان" تعني بالفرنسية الهلال.
ولذلك قصة تخرج من أعماق التاريخ، ذلك أن العثمانيين عندما حاصروا أسوار فيينا عاصمة النمسا أثناء مرحلة غزو أوروبا، استعصت عليهم لعظمها وحصانتها، وطال أمد الحصار دون جدوى، ففكر الفاتحون العثمانيون في طريقة أخرى للاستيلاء على المدينة وهي الدخول إليها من تحت الأرض، عبر نفق يحفرونه ليتجاوزوا سور المدينة، وبدأوا بالتنفيذ، واستمر الحفر ليلا ونهارا حتى كادوا أن ينجحوا في خطتهم، لكن المقادير لم تكن في صالحهم، وحدث ما لم يكن في الحسبان، لأن الحفر تزامن يوما مع اقترابه من مخبز المدينة حيث كان هناك أحد الخبازين النمساويين يعمل ليلا في مخبزه، فسمع أصواتا غريبة، حيث سمع نقرا منتظما ومستقرا في باطن الأرض قريبا منه، ففكر في ذلك وفيما عساه أن يكون ذلك النقر المستمر في جوف الليل وفي جوف الأرض، وهو لم يسمع مثل ذلك من قبل، وقادته شكوكه إلى مخاوف كبيرة، فاستجمع أمره وتوجه إلى حاكم المدينة فأطلعه على الأمر، وشرح له الخبر، فما كان من الحاكم إلا أن حضر ومعه الخبراء ليستوضحوا الخبر، وبعد أن استوضحوا المشكلة بإمعان، علموا أن العثمانيين يحفرون نفقا تحت الأرض، ففكروا في خطة لمواجهتهم وكانت الخطة أن يتركوا العثمانيين حتى يتموا الحفر ويستعد الحاكم ومن معه ليباغتوهم عند وصولهم إلى سطح الأرض فينقضون عليهم، وهذا ما حصل بالفعل، وتم لأهل فيينا ما أرادوا واستطاعوا دحر العثمانيين وكسر شوكتهم وكانت هزيمة نكراء أبيد فيها معظم الجيش العثماني وتم أسر أعداد كبيرة منهم وتحطمت أحلامهم على أسوار فيينا.
وعندما أراد أهل المدينة أن يحتفلوا بالنصر العظيم، وتكريم الرجل الذي كان له في نظرهم الفضل في الانتصار، أحبوا أن يكون التكريم بحجم الانتصار وأراد الخباز أن يخلد مهنته، ويخلد ذكره كذلك، وألا ينتهي التكريم بانتهاء المهرجان، وينسى الناس بعد ذلك ما قد حصل من شجاعة الخباز وأهمية عمله، وأراد أن يكون التكريم خالدا ومستمرا على مر الأيام والأزمان حتى لا ينسى أهل مدينته دوره في صناعة ذلك النصر الكبير، فطلب موافقة الحاكم على السماح له بصنع خبز على هيئة الهلال، الذي هو شعار العثمانيين أعدائهم، وهو خبز يلتهمه أهل المدينة صباح كل يوم، ليتذكروا مع إشراقة كل شمس أنهم يقضمون شعار عدوهم، ويكسرون شوكته.
وقد تكون تلك الرواية هي إحدى الروايات، التي تفسر شكل الكروسان على هيئة الهلال، ليصبح بعد أن أعددته بإتقان رمزا تتحرج من مواصلة أكله وشرائه. لكن في المقابل هناك رواية ترى غير ذلك، إذ إن تاريخه يعود للقرن السابع عشر عندما حاصر العثمانيون العاصمة النمساوية فيينا، وكان آخر حصار لهم، ونظرا لشدة المعركة، قام النمساويون بصنع خبز أو فطيرة على شكل هلال كي يرفع معنوياتهم أثناء الحصار والقتال، فالهلال كان شعارا للعثمانيين المسلمين، فمن خلال أكل هذه الفطيرة الهلالية الشكل يتصورون أنهم سيقضمون العثمانيين ويلتهمونهم ويهزمونهم! وكان ما كان فبعد هذا الحصار انكسر العثمانييون ولم تحاصر بعدها فيينا. ومن هنا كان حبهم وتكريمهم لهذه الفطيرة التي ترمز لهزيمة العثمانيين على أسوار مدينتهم، وعند هزيمة الجيش العثماني المسلم، أمر إمبراطور النمسا طباخه بعمل حلوى لذيذة فما كان من الطباخ إلا أن ابتكر مخبوزا على شكل هلال ليذكره بهزيمة العدو, ثم عمّت صناعته أوروبا وتعددت طرائق إعداده ومن فرنسا انتقل إلى العالم الإسلامي، وربما يبقى الكروسان شاهدا على قصة أخرى، أو ربما يكون بريئا من كل ما ينسب إليه.