وقفة الأمانة والمسؤولية
لم يكن مستغربا ولا جديدا علينا أن نجد الملك عبد الله بن عبد العزيز يقف هذه الوقفة المفعمة بالمرارة والمسؤولية والأمانة عما أؤتمن عليه، والتي عبر عنها بالأمر الملكي الأخير على خلفية وتداعيات كارثة سيول مدينة جدة. والذي جاء بصياغة تفرد فيها خطابه من ناحية المصارحة والجدية والمعاني المباشرة والتوصيف الدقيق والصريح للقضية التي يتناولها.
الأمر الملكي الأخير تميز بأنه صيغ بمقدمة عبر من خلالها الملك الأمين عن أسفه الكبير عما حدث، واستنكاره أن يحدث ما حدث لواحدة من أكبر مدننا وأهلها بسبب هطول أمطار, وذكر - حفظه الله - ، بصراحته المعهودة، أنه تهطل مثلها يوميا على بلاد أخرى متقدمة ومتخلفة دون أن تنتج عنها كوارث مثلما حدث لمدينة جدة، وفي هذا إشارة واضحة وصريحة إلى أن هناك خللا أدى لحدوث هذه الأضرار الكبيرة، وأن هناك تقصيرا قاد لأن تحدث هذه الكارثة بسبب أمطار مهما كانت غزيرة.
وهذا ما عبر عنه - حفظه الله - بقوله (إنه ليحز في النفس ويؤلمها أن هذه الفاجعة لم تأت تبعا لكارثة غير معتادة على نحو ما نتابعه ونشاهده كالأعاصير والفيضانات الخارجة وتداعياتها عن نطاق الإرادة والسيطرة في حين أن هذه الفاجعة نتجت عن أمطار لا يمكن وصفها بالكارثية). وفي هذا توصيف دقيق ومسؤول بأن هناك سلبيات وأخطاء وتقصيرا كانت المسببة لحدوث كارثة مدينة جدة، وهو ما أدى لأن يتضمن الأمر الملكي الكريم تشكيل لجنة تقصي حقائق وتحقيق لتحديد المسؤولية لكل جهة أو شخص معنية أو معني بأسباب ما حدث. مؤكدا ـ حفظه الله ـ أن لدينا الشجاعة للإفصاح عن أي أخطاء أو تقصير جهات وأشخاص، وأنه سوف تتم محاسبة كل مقصر أو متهاون بكل حزم دون أن تأخذه في ذلك لومة لائم تجاه من يثبت إخلاله بالأمانة، والإخلال بالأمانة واضح وضوح الشمس في كارثة سيول جدة، وعطفا على هذه الوقفة من المليك والتي جاءت متأنية غير متسرعة وبعد مرور عدة أيام على حدوث الكارثة، وبما يعني أن الأمر الملكي صدر بعد دراسة واقع الحال وبعد أن أدرك - حفظه الله – حجم الكارثة التي حدثت بفعل إهمال وتقصير قبل أي شيء آخر، فإن الجميع في انتظار نتائج التحقيق وتقصي الحقائق حتى لا تمر الكارثة مرور الكرام، وحتى تكون درسا لكل مسؤول أؤتمن على مسؤولية. ولوضع نظام محاسبة ومساءلة حقيقي وفعال لتلافي ما قد يحدث مستقبلا ليس في مدينة معينة ولكن في كل مدن وقرى مملكتنا الحبيبة والتي يفرض واقعها أن تكون في مصاف الدول المتكاملة البناء والقادرة على مواجهة كل الظروف الطبيعية وغير الطبيعية.
من جانب آخر, لا يمكن إغفال الجانب الإنساني في وقفة المليك الأمين حيث أمر - حفظه الله - بصرف مليون ريال لذوي كل شهيد، وتعويض كل من تضررت أملاكه، وهذا ليس مستغربا من ملك الإنسانية ومواقف الدولة الدائمة في مثل هذه الحالات المؤسفة حقا.
ربما كل ضارة نافعة، فعلى الرغم من حجم كارثة جدة فلعلها توقظنا من غفوتنا مما يجري ويحدث من أداء سيئ وقصور في تنفيذ المشاريع وعدم توافقها مع متطلبات الجودة على الرغم مما يصرف عليها من مبالغ مليارية ثبت أنها يمكن أن تذهب سدى عند أي اختبار حقيقي ولعلها تفتح الباب للمحاسبة والمساءلة ومراجعة الأداء العام والخاص معا، فعند القول إن هذه الكارثة لا يجب أن تمر مرور الكرام، لا نقصد فقط محاسبة كل من قصر في أداء مهامه ومسؤولياته، بل نقصد أن نضع آلية إدارية جديدة تقضي على كل مظاهر الفساد الإداري والمالي معا، وتدعو لعمل مراجعة شاملة وكاملة لكل عملنا دون أن ننتظر كارثة ـ لا قدر الله ـ تدفعنا لفتح الملفات بعد فوات الأوان.
الأمر الملكي الكريم والحاسم والواضحة أهدافه وآلياته يجب أن يكون فاتحة لمراجعة أداء المسؤوليات، وقياس مدى توافقها مع الجودة المطلوبة، وجعل كل مسؤول يشعر ويدرك أنه سوف يحاسب على أي تقصير أو تهاون يضر بالمصلحة العامة، وهذا ما عبر عنه الملك الأمين عبد الله بن عبد العزيز أكثر من مرة، وحين قال في مجلس الشورى بصراحته المعهودة إنه (من حقكم أن أضرب بالحق هامة الجور والظلم) وقوله أيضا (كل مسؤول مساءل أمام الله ثم أمامي وأمام الشعب). ليكن الله في عون الملك ويشد من أزره بالمخلصين والأمناء.