جامعة الملك سعود مشرقة بكل لغات العالم
كما وعدت جامعة الملك سعود، ها هي تدخل معقل الـ 500 كبير في عالم التعليم العالي، وفقا لتصنيف شنغهاي الصيني، كأول جامعة عربية تدخل هذا التصنيف الذي تنشره مجلات عالمية رصينة كـ «الإيكونوميست»، فأروع باقة ورد وأجمل تهنئة أزفها لهذا الكيان الذي عاد شبابا ينبض حيوية وتألقا يتحدث اللغة الإسبانية والصينية والإنجليزية والبقية تأتي. «لا يمكن أن يكون كل هذا مجرد صدفة أو حملة علاقات عامة»، ذكر ذلك أستاذ أمريكي متابع لتطورات جامعة الملك سعود؛ ويكمل قائلا، «مهما كانت المعايير التي يتم التصنيف بموجبها»، الشاهد بكل وضوح أن «هناك تقدما ملحوظا» على جبهات مختلفة. وهذه حقيقة، فما يحدث مهما كان بسيطا في عيون البعض، فهو إشارة عميقة إلى وجود حراك أثمر عن نتائج ملموسة في الرادارات العالمية التي تلتقط الإشارات التي تحدثها الكيانات الحية. إن ما يحدث داخل أسوار جامعة الملك سعود دليل صارخ على أن الإرادة النابعة من العروق لا بد أن تنتج شيئا متميزا, بالطبع الإرادة ليست كل شيء, تعادلها أهمية المرونة المالية والإدارية.
إذ لا يمكن لأي عملية تنموية ترتكز على العلم والبحث أن تنطلق وقرار تمويلها يمسك بزمامه موظف يعامل البحث العلمي كما يتعامل مع ميزانية الصرف الصحي. هذا الموظف لا يلام ولست هنا في موضع همزة ولمزة فهو مسؤول عن تدبير توزيع الميزانية وفقا لمعايير فنية، وليس - ولم يكن في يوم من الأيام - من واجباته أن يستشرف المستقبل ويدرك أهمية البحث العلمي لنمو المجتمعات. لا أحد يطالبه بأن يعرف أسرار التطور الكوري أو السنغافوري المذهل. هو إنسان يؤدي وظيفة تم رسم حدودها وأطر تحركاتها من مكان آخر. المشكلة أن الجامعات ومراكز البحوث لا يمكن أن تنتعش تحت سلطة هذا الموظف فهي تقوم بأدوار أعقد من فهمها بالآلة الحاسبة. ومشكلة التعليم العالي أيضا أن نتائج غرسه لا تظهر إلا بعد فترة زمنية ليست قصيرة ولهذا فهو لا ينسجم مع فكرة الميزانية التي يصيغ أطرها الزملاء من المحاسبين والماليين المهمومين في كيفية تغطية النفقات العامة. فكرة صرف مبلغ مليار سينتج عنه «سفلتة» ألف كيلو متر، أو «بناء 100 ألف متر مربع» من المباني الخرسانية قد تكون مقبولة ماليا، ولكن ذات السهولة تتلاشى إذا انتقلنا إلى صرف المبلغ ذاته في البحث العلمي. البحث العلمي، على اسمه «بحث» ولو كان سهلا لتمت تسميته «نتيجة» ولهذا فهو يستغرق وقتا قد يكون طويلا جدا للوصول إلى النتيجة - التي قد تكون محبطة - فمنذ سنوات والبحث العلمي يبذل جهوده على بعض الأمراض كالإيدز مثلا ومع هذا دون جدوى حتى اليوم. إذا أضيف إلى هذا، عقدة تحقير الذات وتفوق الغرب وأن كل شيء ذي قيمة سبقنا بها الغربي، فالمحصلة أن فكرة صرف مليار على بحوث علمية - قد لا يعرف أغلبيتنا ماذا تعني أسماؤها - ستصبح لغوا وهدرا للمال العام لا معنى له لدى موظف المالية المعني بتخصيص مبالغ البحث العلمي. الأوقاف علاج فاعل للانفكاك من تلك القيود, فهي تضمن موردا ماليا مستمرا وهامش حرية في التصرف مرتفعا لا تتيحه الأنظمة المالية الحاكمة على عمل الميزانية.
والتعليم العالي كذلك لا ينسجم مع الأنظمة الإدارية التي تعم الجميع؛ فلا يمكن لجامعة أن تنهض من كبوتها وتؤدي رسالتها البحثية والعلمية والاجتماعية وهي مكبلة بقيود أنظمة إدارية وضعت لضبط صغار الموظفين في أطراف المملكة يؤدون وظائف اعتيادية؛ أو تكبلها في التعامل مع عضو هيئة تدريس لا مبال وغير منتج. ما يسري في الجامعات يجب أن يكون متوائما مع أهدافها ورسالتها. الباحث في الجامعة لا يمكن أن تجبره على «اختراع» دواء الإيدز في يوم وليلة؛ والباحث المتميز تعرف قيمته وتتسابق عليه مراكز البحث العلمي في كل أنحاء العالم فلا يمكن تقييمه «بالتراتيب» والمراتب الإدارية التي تقيس بقية الموظفين الاعتياديين في الجهات الحكومية. وعضو هيئة التدريس «المريض» مهنيا لا يمكن القبول بأن يكون حجرة تعرقل جهود الكيان، فقط لأن الأنظمة الإدارية تكبل إزاحته من الجامعة, لا بد من استثناء لعمل الجامعات إن أردنا منها إنتاجا. لا يعني هذا بالطبع انفلاتا بل يعني وضع تنظيمات تتسق مع التعليم العالي، وإنقاذها من ربقة القيود المعيقة على استقطاب واستمرار المتميز ومعاقبة وإزالة المتبلد. إن بقيت القيود، فلنسلم تسليما لا مفر منه أن النتائج ستكون مماثلة لجميع خطوط الإنتاج الحكومية «المعروفة» حتى إن صادفتنا في بعض الأحيان طفرات جينية غير متوقعة. مجلس الأمناء قد يكون من أروع الوسائل للرقابة والإشراف على سياسات و«حريات» الجامعة، وهي فكرة لا يبدو ما يمنع من تطبيقها وتعميم فكرتها على جميع الجامعات السعودية.
إن أردنا تنمية حقيقية لا تنمية «البور بوينت» و«الإنيميشن» و«الفرقعات الصوتية»، فلنستثمر بأكبر قدر ممكن في التعليم العالي، لا استثمارا ماليا فقط، بل بشريا وإداريا، فهو السر وهو القاعدة الرئيسية لانطلاق التنمية الحقيقية، فليس كل شيء يمكن شراؤه أو استيراده. هناك أشياء يجب أن تنبع من رحم البلد، وأخصب الأماكن بلا جدال هي التعليم العالي بذراعيه «التعليم» و«البحث». وزارة التعليم العالي ــ الحصان الأسود من بين كل الوزارات ــ أبدعت في الحقبة الأخيرة بشكل لافت للأنظار فاق التوقعات التي كانت تفترسها تحليلا، فقاتلت مع الجامعات بكل قواها، وها هي ثمرات ذلك الغرس بدأت تزهر وتلوح في الأفق بوادر جميلة؛ لا أملك تجاهها إلا أن أتفاءل بمستقبل مشرق. لنحتفل بهذه الإنجازات فقط «لحظات» نلتقط فيها الأنفاس، ونعود سريعا إلى المضمار لامتطاء ظهور أحصنة العلم والبحث والتطوير والتي عليها فلنراهن.