هل من سبيل لوقف انتشار الأسواق والمجمعات التجارية؟
خلال فترة وجودي في المملكة، والتي لا تتعدى خمس سنوات، شاهدت بأم عيني افتتاح عديد من الأسواق التجارية، وفي الوقت نفسه، شاهدت إسدال الستار على الأسواق نفسها!! أي في أقل من خمس سنوات افتُتِحت أسواق وأغلقت! وهذا يعني أن هناك خللا ومشكلة كبيرة يعانيها هذا القطاع. فجمعينا ندرك أن هناك انتشارا في عدد الأسواق والمجمعات التجارية الاستهلاكية. فبين كل سوق وسوق تنشأ سوق، حتى زاحمت الأسواق التجارية الشقق السكنية في أعدادها! فعلى طريق العليا في مدينة الرياض - على سبيل المثال لا الحصر - وفي مساحة لا تتعدى 500 متر، يوجد ما يزيد على خمس أسواق تجارية! وجميعها – تقريباً – لم يمض عليها التقادم الخمسي، إلا أن كثيرا منها بصدد الانقضاء بالتقادم الثلاثي!
إنها ظاهرة مقلقة وسلبية للغاية، وذلك لعديد من الاعتبارات، وفي مقدمتها إهدار الموارد مع كل مجمع ينشأ ويموت خلال تلك الفترة الوجيزة. ومن ثم، فإن ما يجري في هذا القطاع يدعم عديدا من الحقائق الاقتصادية وفي مقدمتها:
ـ أن القطاع الخاص، وعلى خلاف ما حاول أنصار الحرية الاقتصادية ترويجه، يفتقر إلى الرشادة في السلوك، وهذا أمر أكدته الأزمة العالمية الراهنة، وبالتالي لم تعد مسألة رشادة السوق أو القطاع الخاص مجالاً لنقاش أو دحض، بل باتت من تراث الماضي. فالقطاع الخاص كان وسيظل في حاجة إلى توجيه الدولة، أما أن يُترك حراً، فهذا أمر ثبت فشله الذريع. ليس معنى كلامي أنني ضد حرية السوق، ولكنها الحرية المنظمة بسياج الدولة.
ـ إن عمليات افتتاح الأسواق التجارية وإغلاقها في أقل من خمس سنوات دليل على افتقار أغلب مشيدي تلك الأسواق إلى الرؤية الاقتصادية أو الاستثمارية طويلة الأجل. بل يفترض هذا الوضع أنه لم تكن هناك رؤية من الأساس لدى بعضهم، حيث الافتقار إلى دراسات جدوى حقيقية أو جادة لواقع السوق أو الوضع التنافسي فيها.
ـ إنه لا يمكن إعفاء المؤسسات المعنية بمنح التراخيص، بل والبنوك التي وافقت على تمويل تلك المشاريع من المسؤولية. فكان يُفترض أن يسبق قرار المنح تأكد تام من أن السوق قادرة على استيعاب اللاعبين الجدد، وليس مجرد التأكد من أن الأصول كافية لتغطية قيمة القرض! ولهذا شتان بين الجدوى المالية للمشروع والجدوى الاقتصادية الكلية.
ـ ترتب على هذا الصراع، اضطرار المحل الواحد أو العلامة التجارية الواحدة إلى وضع موطئ قدم لها في كل سوق من تلك الأسواق المتلاصقة ''في أقل من 500 متر''!! وذلك حتى تحافظ على حصتها من السوق. لا شك أن في هذا إهدارا واضحا للموارد الخاصة (فما جدوى أن يكون للعلامة التجارية خمسة محال مملوكة أو مؤجرة تبيع المنتجات نفسها في مساحة لا تزيد على 500 متر؟). وعليه، يعكس هذا الوضع السلبي الحاجة إلى تعزيز دور الدولة لتوجيه النشاط الخاص نحو ما يخدم أهداف التنمية العامة والخاصة.
ـ إن هذا التوجه بملايين وربما مليارات الريالات نحو تلك ''المشاريع الاستهلاكية أو الريعية''، يعكس واقع شريحة لا يستهان بها من المستثمرين، وهو أنهم أقل ميلاً إلى المخاطرة المحسوبة، بالاستثمار في قطاعات إنتاجية، أكثر إفادة للوطن والمواطن. وعلى الدولة التدخل لتوجيههم نحو قطاعات إنتاجية لا ريعية، فعلينا أن نتعلم الدروس من الأزمة العالمية الراهنة.
ـ إن تفشي انتشار المجمعات التجارية يغذي النمط والشره الاستهلاكي الذي يسود، ليس فقط في المملكة، ولكن في جميع دول مجلس التعاون. في حين أن التطور والتقدم الاقتصادي يتطلب ميلاً أكبر نحو التوجهات الإنتاجية، والحد من تلك الأنماط الاستهلاكية. فهذا الوضع يوحي بأن رجال الدين يعملون في وادٍ (عندما يدعون إلى الحد من الاستهلاك)، في حين المستثمرون في قطاع الأسواق التجارية يعملون في وادٍ آخر.
ـ ربما ينطوي انتشار وتعدد الأسواق التجارية على ميزة غير مباشرة، تتمثل في الحد من السياحة الخارجية للمواطنين، وذلك بحفز المواطنين على البقاء في البلاد والاستمتاع بالخدمات التي تقدمها تلك الأسواق. إلا أن هذه ميزة محتملة، ولم تترك أثراً كبيراً في الحد من السياحة الخارجية للسعوديين، بدليل أن قيمة ما أنفقه السعوديون في الخارج خلال صيف 2009م – مثلاً - دار حول خمسة مليارات ريال، وذلك على الرغم من إنفلونزا الخنازير والطيور والأزمة العالمية وخسائر السوق... إلخ!!
لا يمكن لأحد أن يتكهن بأن هذه الموجه الاستهلاكية غير المنظمة ستتوقف قريباً، خاصة إذا ما استمر هذا الوضع. كما لم يعد بمقدورنا – كاقتصاديين – قبول فكرة أن السوق الحرة قادرة على تنظيم نفسها وتحقيق التوازن، خاصة بعد الأزمة العالمية الراهنة. ومن ثم، وحتى يمكن وقف هذا السيل يلزم التحرك على أكثر من صعيد:
أولاً: لابد من أن تكون قرارات المنح (الترخيص) أو المنع مبنية على دراسات جدوى متقنة وجادة، تعكس واقع السوق واحتياجاتها، ومن ثم تكون هناك جدوى حقيقية من إقامة المجمع أو السوق. لا بد أن تتثبت الجهات مانحة التراخيص من جدوى المشروع قبل منحه. كما ينبغي على البنوك ومؤسسات التمويل التأكد من الجدوى الاقتصادية لتلك المشاريع، وليست فقط الجدوى المالية، وذلك حتى نؤمن ونقنع بالدور التنموي للقطاع المصرفي.
ثانياً: لا بد من توعية المستثمر اقتصادياً وتوجيهه نحو قنوات وأبواب استثمارية أكثر إفادة للاقتصاد، وأكثر استدامة وربحية للمستثمر على المديين المتوسط والبعيد، وهذه مسؤولية المؤسسات العامة كافة، وفي مقدمتها الهيئة العامة للاستثمار.
ثالثاً: يلزم بذل مزيد من الجهود عبر مختلف القنوات الإعلامية للحد من النمط الاستهلاكي السائد، والذي ينطوي على أضرار اقتصادية واجتماعية وصحية، وحفز الأفراد على ترشيد عاداتهم وأنماطهم الغذائية والاستهلاكية، وتوجيه مواردهم نحو أبواب أكثر كفاءة.
والله الموفق،