أحوال الاقتصاد العالمي بعد أحداث سبتمبر
أحداث الأيام والشهور لها سنن كونية، وهي محكمة بشكل دقيق ومسيرة بيد الله الخالق العظيم, الأحداث التي تتوالى على الأمم والبشر ليست اعتباطية ولا تحكمها الصدف, فقد تحدث نتيجة لذنب ما وقد تحدث نتيجة لأمور أخرى- "وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا" الآية, الموعد الأول في أيلول (سبتمبر) 2001, الموعد الثاني في أيلول (سبتمبر) 2008, ومواعيد أخرى ما زالت في علم الغيب, وحيث لا يتسع المقام للإسهاب, فإن أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) وهي مجموعة الأحداث الإرهابية التي شهدتها الولايات المتحدة ونالت برجي مركز التجارة الدولية ومقر وزارة الدفاع الأمريكية "البنتاجون", جاءت حصيلة لنرجسية قادة الاقتصاد الرأسمالي الغربي من جراء ظلمهم وقلة اهتمامهم بقضايا الدول الفقيرة أو ما سموها دول العالم الثالث، وتملصهم من المسؤولية المفترض أن تكون ملقاة على عواتقهم, وحيث رأى كثيرون أن تلك الأحداث كانت بمثابة صدمة اقتصادية ومنعطفا كبيرا للاقتصاد العالمي الذي شهد خلال الأعوام الماضية تباطؤا في المبادلات التجارية وحذرا في الأسواق وتراجعا كبيرا في الاستثمار وعجزا في ميزانيات عديد من الدول, فالتباطؤ الاقتصادي كان كبيرا قبل وقوع الهجمات, والولايات المتحدة كانت في حالة انكماش, لقد وضع زلزال 11 أيلول (سبتمبر) الاقتصاد الأمريكي, الذي بلغ حجمه ما بين 30 و40 في المائة من الاقتصاد العالمي في مأزق تاريخي، الخسائر الناجمة عن تلك التفجيرات على صعيد البشر من الأزمات النفسية والاجتماعية والمعيشية لم يعادلها سوى إرهاصات الأزمة المالية التي نعيشها اليوم في داخل الأسواق الأمريكية وخارجها وحصدت آلاف المليارات من الدولارات وخسائر مادية كبيرة امتدت أفقيا من واشنطن إلى طوكيو, وعموديا لتشمل مختلف النشاطات الاقتصادية الحيوية من بورصات وبنوك وشركات طيران وعملات, وفي حين قدر تقرير للأمم المتحدة حجم الخسائر المترتبة على الاقتصاد العالمي من جراء الهجمات، ليقدر الخسائر بأنها تزيد على 350 مليار دولار وخسائر الولايات المتحدة بما يزيد على 100 مليار دولار، ثم كثرت التوقعات بشأن هذه الأزمة وبرز عديد من المؤشرات نحو الانكماش الاقتصادي كالتضخم المالي وارتفاع أسعار البترول الذي قاد بدوره إلى ارتفاع أسعار الغذاء نتيجة اعتماد إنتاج الغذاء على إنتاج الوقود وتأثرت شركات الطيران العالمية خوفا من هجمات جديدة, وأضحت الحصانة والمصداقية التي تميز بها الاقتصاد الأمريكي طوال العقود الماضية منذ الكساد العظيم في الثلاثينيات موضع تساؤل, ولم يقتصر الأمر على ذلك بل أن تلك الأحداث شكلت عودة للأيديولوجية العسكرية في مجال الاقتصاد واستغلت الأمور لكيل الاتهامات لدول معتدلة وبريئة من أجل النيل منها وافتعال الأزمات معها, وغيرت الحكومات الغربية أولوياتها وبدأت تفكر في مخرج للأزمة فأقحمت نفسها في شؤون الشعوب الداخلية كأفغانستان والعراق, وأكاد أجزم أن مبدأ "كارتر" الذي يعد إمكانية التدخل بالقوة لحماية المصالح القومية الأمريكية في أي منطقة من العالم هو سبب آخر لهذا الانهيار, علاوة على اعتماد العالم على سياسة التعويم للعملات الوطنية وخصوصا الدولار والعملات الصعبة المعتمدة, بدلا من اعتماد قاعدة الذهب, ما سهل عملية التدفق اللانهائي للعملات إلى أسواق التداول, ولذلك فإن التضخم المزمن فرض نفسه كسمة من سمات العصر بسبب تراكم الثروة التي أعطت البدائل الخادعة للمنظومة الأمريكية المتهاوية, وبعد أن عانت الأمرين من الأوضاع الداخلية المتدهورة التي تطلبت زيادة في الإنفاق لتلبية احتياجاتها الأمنية, وهو ما أدى بدوره إلى تفاقم العجز في الميزانيات, فبلغ العجز الأمريكي نحو 455 مليار دولار عام 2003 و475 مليار دولار عام 2004, وهي مبالغ ضخمة, وازدادت الخسائر الفادحة مع التخفيضات الضريبية والإنفاق على الدفاع ودعم القطاعات الاقتصادية المنكوبة وفي مقدمتها المصارف المركزية التي لم تتردد في تغيير رؤيتها وإجراءاتها بين ليلة وضحاها وأصبحت مستعدة لتغيير سياستها النقدية وخفض نسب الفائدة وعملت حتى على مكافحة التضخم, وانسحب الأمر نفسه على المصرف المركزي الأوروبي ولم يقتصر على أمريكا فقد سجلت فرنسا عجزا في الميزانية قدر بـ 60 مليار يورو في تلك السنة أي 4 في المائة من إجمالي الناتج الداخلي, لكن اللافت للنظر أن الولايات المتحدة وأوروبا لم يحركا ساكنا فيما يخص شبكات الاقتصاد القذرة وغسل الأموال التي تقوم بها شبكات المافيا العالمية والتي أشبع الإعلام الغربي الحديث عنها ولم يجرؤ على اتخاذ أي إجراءات فاعلة لمحاربتها رغم الدور التدميري الواضح للاقتصاد الذي قامت به. وبمقارنة تلك الأحداث بالأزمة المالية التي حدثت في أيلول (سبتمبر) 2008, التي عدت أسوأ من الأولى وبدأت بالولايات المتحدة أيضا ثم امتدت إلى دول العالم لتشمل الدول الأوروبية والدول الآسيوية والخليجية باعتبار ارتباط اقتصاداتها مباشرة بالاقتصاد الأمريكي, وتنامت معدلات الكساد العالمي وازدادت البطالة وهبطت أسعار الأسهم والعقارات, ولم تنجح حتى الآن جميع الإجراءات الاقتصادية التي اتخذتها الدول الغنية والمؤسسات المالية الدولية, التي هي على غرار قمة العشرين الأخيرة في لندن, في وقف هذا التراجع أو الحد منه، لقد سارت تلك التقديرات وفق منهجية محددة وارتبطت بشكل رئيس بمؤشرات الأسواق وإنفاق المستهلكين كسابقتها، وعالج بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي هذا التراجع من خلال خفض معدلات الفائدة كعادته في الأزمة السابقة دون جدوى, واختلفت درجة تأثر الاقتصادات من منطقة إلى أخرى بدرجات متفاوتة, وإذا كانت قمة العشرين الأخيرة قد شخصت الأزمة العالمية بأنها أزمة مصارف فإن من أكبر دواعي التشاؤم في سلسلة الإجراءات التي كانت متخذَة لمنع تمويل الإرهاب في السابق هو تخلي النظام المصرفي الدولي عما سمي السرية المصرفية، وأصبح للمحققين كامل الحرية في اختراق أسرار البنوك والعملاء على حد سواء وتعريض أموالهم ومدخراتهم لخطر الحجز والمصادرة، وهذا الإجراء أفقد الدول الغربية كثيرا من رؤوس الأموال التي غذت نظامه المصرفي وحركته، وهو ما بدأ بالفعل حيث سحب عدد من المستثمرين والمودعين نحو مليار دولار من أرصدتهم بعد أحداث 11 أيلول (سبتمبر) مباشرة, ويبقى القاسم المشترك بين أحداث أيلول (سبتمبر) الأولى في 2001 وأيلول (سبتمبر) الثانية في 2008 هي الآثار المدمرة للاقتصادات العربية، حيث إنها مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالاقتصاد الأمريكي سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، فثلثا استثمارات العرب موجود في الأسواق العالمية ومنها السوق المالية الأمريكية على هيئة إيداعات في المصارف الأمريكية، والخسائر التي تكبدتها الاستثمارات العربية قدرت بآلاف المليارات سواء كانت في سوق المال أو العقار أو المصارف, وتعمدت الولايات المتحدة إلى استخدام أسلوب التجميد في حال رغبة أية دولة في سحب أموالها وأرصدتها من السوق الأمريكية، كما أن اقتصادات الدول الخليجية المرتبطة بالاقتصاد الأمريكي من حيث صادراتها النفطية إلى السوق الأمريكية واستثماراتها الحكومية والخاصة، وقدرت استثمارات الكويت في الأسواق العالمية بما فيها السوق الأمريكية بنحو 80 مليار دولار، فيما قدر محللون أن استثمارات السعودية راوحت بين 100 مليار و400 مليار دولار, بينما وصلت التقديرات غير الرسمية لاستثمارات الإمارات بنحو 300 مليار دولار, فيما قدرت بقية استثمارات مجلس التعاون بـ 65 مليار دولار، ليجعل التأثر الخليجي بتلك الأحداث ليس سهلا. وبعد مرور هذه السنوات بدت الخسائر وكأنها لم تنته وتواصلت في أشكال مختلفة مسجلة أرقاما جديدة, وهكذا اهتزت الأسواق المالية العالمية وتأثر أداؤها بشكل سلبي وهبطت العملة الأمريكية مقابل اليورو, وأصبح ذلك مدخلا لعديد من الدول الناشئة للحديث عن النمو أو الطفرة الاقتصادية كالهند وروسيا اللذين نجحا في صعودهما إلى مكانة أعلى, واستغلت الصين ذلك للمطالبة بسلة عملات احتياطية بدلا من الدولار بعد أن تباهت بأن اقتصادها هو الأفضل أداء بين الاقتصادات العالمية الكبرى, وبالنشاط المتزايد لمؤسساتها وشركاتها وبالتحسن الذي شهدته في مجال الاستثمار والإنفاق والتجارة وشجعها ذلك لاتخاذ سياسات إغراق عدوانية تجاه الآخرين, ومصائب قوم عند قوم فوائد, فهل يستفيد العرب كما استفادت الصين؟ ختاما فإن أحداث أيلول (سبتمبر) 2001 لا تقل خطورتها عن أحداث أيلول (سبتمبر) 2008, وإذا كان الاقتصاد له القوانين التي تحكمه فإن العالم من حولنا يزخر بقوانين أخرى تحرك البشر والحجر كلعبة الشطرنج وتلعب بعقول الجميع, وتلك الأيام نداولها بين الناس.