لن ألوم بعد اليوم الشاب السعودي

كان يوما حارا لا يساعد على الحركة, ولا يغري بالخروج من المنزل, ومع ذلك امتطيت سيارتي وخرجت أجوب شوارع الرياض الواسعة لا ألوي على شيء. كانت الساعة السابعة صباحا, من يوم الخميس, معظم السعوديين نيام, بل أكاد أجزم بأن كل السعوديين نيام. حيث لم يقابلني عند إشارات المرور إلا الأجانب من العمال عرفتهم من سياراتهم البائسة وأشكالهم المزعجة وما كانوا يحملونه معهم من أدوات تعينهم على القيام بأعمالهم. فهذا قد كتب على كل جزء من سيارته وبالخط العريض (معلم جلي بلاط) وآخر كتب (معلم قرميد) وثالث اكتفى بوضع عوامة بلونها البرتقالي في أعلى السيارة ليقول إنه سباك، ورابع كهربائي وخامس نجار وهكذا, سم ما شئت أن تسمي من المهن المتعددة فستجد مَن ينفذها.
 سألت نفسي. لماذا هذه الأعمال لا يقوم بها سعوديون. هل المردود المالي لا يتناسب مع الجهد المبذول؟ هل العادات والتقاليد تقف حجر عثرة أمام هذه المهن؟ هل كثرة العمالة الأجنبية سبب في المنافسة الشرسة؟ وغيرها من الأسئلة التي ترددت على لساني ولم أجد جوابا شافيا ووافيا لها.
 تكونت لدي قناعة بأنني لن أجد الجواب الأكيد ما لم أستخدم منهج (الملاحظة بالمشاركة)، وهو منهج استخدمه كثير من الباحثين في دراسة المجتمعات. قررت النزول إلى الميدان لأعمل ككهربائي وهي مهنة أجيدها بما أملكه من خبرة قديمة وما حصلت عليه من دورات في هذا المجال في بداية عصر الشباب.
لبست (بنطالا) من الجينز وقميصا ووضعت على رأسي قبعة ووضعت في الجيب الأيمن للبنطال مقياس الفولت الكهربائي وفي الجيب الخلفي مجموعة من المفكات ذات الألوان الزاهية وفي الجيب الأيسر الخلفي جهاز الجوال. من يراني في هذا (اليوني فورم) لا يشك أبدا في أني فني كهرباء يعمل في إحدى الشركات الهندية.
في الصباح الباكر وتحديدا الساعة السادسة اتجهت بسيارتي إلى أم الحمام، أحد أشهر الأحياء في مدينة الرياض، وقد تجمع العمال قبل قدومي من كل حدب وصوب ولهم دوي كدوي النحل. وجوه صارمة وأجسام قوية وروائح نفاذة لا يمكن لأكبر مصانع العطور الفرنسية أن يلغيها. على أية حال انضممت إليهم منتظرا قدوم زبون, ومرت الساعة تلو الأخرى وأنا لم أستطع أمام هذا الكم الهائل الظفر بزبون واحد, فخبرتهم وقوة أجسامهم وطلاقة ألسنتهم لم أستطع أن آكل معها عيشا, على الرغم من كثرة طالبي الخدمة. وبعد أن كاد صبري ينفد صرخت فيهم وأنا ألوح ببطاقة الأحوال المدنية قائلا أنا سعودي محتاج للعمل إذا لم تتركوا لي الزبون القادم سوف أتصل بالجوازات. كلمة الجوازات وقعت بينهم كوقع القنبلة، بل إن بعضهم فر هاربا لمجرد سماعه كلمة جوازات. تجمع أصحاب الخبرة منهم حولي وهدّأوا من روعي وتركوا لي الفرصة مع الزبون القادم.
كان هذا الزبون شيخا قد جاوز الثمانين من العمر. شيخ جاء مع سائقه باحثا عمن يصلح له جهاز التكييف المعطل، ركبت معه في سيارته البسيطة واتجهنا إلى منزله. كان منزلا شعبيا في الحي المجاور نزلنا سوية واتجهنا إلى المكيف المعطل وبعد الكشف اتضح لي أن العطل بسيط جدا ولا يكلف شيئا قمت بإصلاحه في ثوان فقد كان الأمر يتطلب فقط تغيير (الفيوز)، وبعد أن عادت الروح إلى الجهاز المعطل ابتسم شيخنا وانفرجت أساريره وأقسم بالله أن أشرب معه فنجالا من القهوة. جلسنا سويا وسألته هل لديه أولاد؟ قال نعم ولكن كلهم نيام ولم يرد إزعاجهم. خرجت من عنده مسرعا إلى منزلي بعد تجربة لن أكررها البتة لم أشعر خلال هذه التجربة أنني أعمل في بلادي، فكل الظروف كانت ضدي ولم أجد المناخ المناسب لكي أستغل خبرتي في كسب قوت يومي. بكل صراحة العمالة السائبة لا يمكن أن نأكل معها عيشا ولن ألوم بعد اليوم أي شاب سعودي لا يعمل. الشاب السعودي لديه من القدرات مع الأمانة والإخلاص في العمل الشيء الكثير، لكن المناخ غير مناسب، إن تجربة أستاذنا الفاضل معالي وزير العمل قبل أيام في أحد المطاعم ربما كشفت لنا بعض الثغرات وربما شجعت أصحاب القرار من العاملين في وزارة العمل بالنزول إلى الميدان ليشاهدوا ما يواجهه السعوديون من منافسة شرسة في العمل, على جميع الأصعدة والمستويات. العمل في الوزارة هو أشبه بالعمل في برج عاجي، كما يقال، فهو لن يجدي ولن يحل المشكلات المتراكمة إذا لم يصاحبه عمل ميداني.
والله الموفق.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي