كيف تضيع القدس في ثقافتنا وإعلامنا
أحذر منذ سنوات من أن القدس تضيع في الإعلام والثقافة العربية بشكل أخطر مما تضيع بسبب الدعاوى الصهيونية والإجراءات الفعلية لتهويد المدينة المقدسة، بحيث تنتقل القدس من طابعها وتبعيتها العربية الإسلامية إلى السيطرة السياسية الإسرائيلية. ونستطيع أن نحصي مظاهر الضياع في الوسط العربي الثقافي والإعلامي، وأرجو أن تهتم بذلك المؤسسات والمراكز المتخصصة في شأن القدس. فالمعلوم أن اهتمام إسرائيل بالقدس هو جزء من المشروع الصهيوني الذي يريد كل فلسطين ولذلك عندما صدر قرار تقسيم فلسطين رقم 181 عام 1947 جعل للقدس مكانة خاصة ولم يقسمها بين الدولتين المقرر إقامتهما في فلسطين، الأولى عربية والأخرى يهودية. والمعلوم أن الوكالة اليهودية حرصت - كما يحرص اليهود عموماً - على إدخال مصطلحات لا يلحظها العقل العربي في حينها ثم يعودون إليها عند اللزوم. ومن ذلك تأكيد نتنياهو أن المطالبة بيهودية الدولة ليس جديداً لأن قرار التقسيم نفسه وصف دولتهم بأنها يهودية مثلما وصف الأخرى بأنها عربية. والسبب هو أن إسرائيل تحاول منذ 1948 طمس كلمة فلسطين لتحل محلها كلمة إسرائيل، كما أن إسرائيل أسمت نفسها أرض إسرائيل في إعلان قيام الدولة (إريتز إسرائيل) وتقصد بها كل فلسطين حسبما أوضح الإعلان نفسه.
وقد أصبت بالذهول في الأسبوع الماضي خلال مناقشة رسالة دكتوراه عندما قال أحد أعضاء لجنة المناقشة إن القدس هي عاصمة إسرائيل. وهذا أثر من آثار الطمس الناعم للحقيقة. وقد لاحظت أن خرائط الطيران الدولية تبرز اسم القدس دون الإشارة إلى إسرائيل بينما تظهر تل أبيب بخط لا يقرأ. هكذا توارت تل أبيب وبرزت القدس. ولاشك عندي في أن هذا الزحف الناعم في الإعلام العربي دفع إلى تخل بعضه عن أن يتبع كلمة القدس بالمحتلة لأسباب كثيرة لا مجال لحصرها. وعندما زار السادات القدس في نفس الوقت يؤكد في موقف مصر الرسمي أن القدس جزء من الصفة الغربية وأنها محتلة يجب أن تعود، خلق ذلك التباسا، وبقي من المشهد أن السادات زار القدس، وطبيعي أن إسرائيل تؤكد في الإدراك العربي والدولي أن القدس هي عاصمتها عندما تصدر جميع أعمالها الرسمية من القدس، حتى أصبحت القدس مرتبطة بإسرائيل في صدارة الأحداث، ولذلك ينبه البعض إلى استخدام "الكيان الصهيوني" بدلاً من إسرائيل، واستخدام "القدس المحتلة". ولاشك أن ذلك يسقط عن إسرائيل في أذهان الأجيال الجديدة ما تمثله من غصب ومشروع صهيوني أوسع من دولة إسرائيل. وقد أسعدني إصرار أحد زملائي الشباب في إحدى الجامعات على أن يدرس مادة الصراع العربي الإسرائيلي تحت عنوان الصراع العربي الصهيوني حتى يغرس في أذهان أبنائنا ثقافة الحقيقة الصهيونية وألا تضيع هذه الحقيقة خلف عنوان الصراع العربي الإسرائيلي.
وأخيراً، يبدو أننا بحاجة إلى تكريس القدس عاصمة دائمة وأبدية للهوية والثقافة العربية بكل السبل الممكنة.
ورجاء أخير للأوساط الرسمية العربية والإسلامية أن يكفوا عن الحديث عن القدس الشرقية وحدها، فالقدس كل لا يتجزأ. حتى لا نترك لإسرائيل غرب القدس بلا ثمن مما فتح شهيتها للمطالبة بكل فلسطين. نحن بحاجة إلى نقطة بداية مادامت إسرائيل تذكرنا دائماً بنقطة الختام.