تأملات إدارية في أحوال الموظفين (1 من 2)
خاطرة دائما تمر ببالي عندما أقود سيارتي في الصباح الباكر وأشاهد حجم الحركة والزحام وتدافع الناس للذهاب لعملها (إنا لا نتحدث عن زحمة الذهاب للمدارس التي تسبق هذه وتتقاطع معها وهي أشد منها).
أقول إن استعجال البعض وحجم الذاهبين لعملهم يثير دائما لدي هذا السؤال: هل هؤلاء يذهبون لأعمالهم راغبين، أم مدفوعين بالحاجة والخوف من التأخير وبالتالي المساءلة وما بعدها؟ بالتأكيد هناك فرق كبير بين مَن يقوم الصباح ويذهب لعمله بدافع الرغبة والحرص على أن يحقق طموحات وأهداف هو رسمها لنفسه (ليس فقط للكسب المالي)، وأن يضيف لبنة وإنجازا لبلده ويكون ممن يساهمون في قيادة عجلة التنمية في وطنه ولوطنه، ونتفق أن هناك والحمد لله فئة طيبة من هؤلاء، ولكن وللأسف فغالب الموظفين يقوم الصباح بتثاقل ويكون متأخرا ويحاول أن يعوض كل هذا في سرعة قيادته سيارته فيربك نفسه ويربك الآخرين، وعندما يصل إلى مقر عمله يشعر بأن عمله واجبات ثقيلة فرضت عليه، وليست مهام تصب في مصلحته ومصلحة وطنه، فنجده من السهل جدا أن ينصرف عن أداء هذه المهام, وكثير منهم يحتاج إلى متابعة ومتابعة مستمرة لافتقادهم الدافع الذاتي، وبعضهم يواجهون صعوبات في أداء مهام أعمالهم, منها ما هو بسببه ومنها ما هو بسبب طريقة التعامل معهم.
وقد يتساءل البعض: لماذا التركيز على الموظفين وليس مديريهم والمسؤولين وهذا صحيح، ولكن الإجابة عن هذا بأن أي عمل قل أو كثر حتما سيتم من خلال الموظفين، وإذا كان هؤلاء الموظفين غير قادرين أو فاهمين أو راغبين أو أي سبب آخر فإن هذا العمل حتما سيتأثر سلبا إن لم يتعثر، وبالتالي يعد خسارة تعويضها سيكون مكلفا على صاحب العمل. (وأما فيما يخص المسؤولين والمديرين فسيتم الحديث عنهم لاحقا)، مثل هذه الأمور وغيرها تطرق لها كتاب جيد تحت عنوان:
"لماذا لا يقوم الموظفون بما ينبغي عليهم القيام به، وما العمل حيال ذلك؟"
"Why employees don’t do what they supposed to do, and what to do about it "
أحببت أن تكون المقدمة السابقة مدخل لهذا الكتاب الجيد الذي يطرح مشكلة الموظفين في أداء مهامهم الوظيفية بكثير من الواقعية والتفصيل ويضع الحلول لها، الجميل في هذا الكتاب أنه ليس كتابا نظريا أو يتطرق للموضوع من جانب أكاديمي، بل هو بحث ميداني عمل من خلال لقاءات ونقاشات مع 25 ألف مدير من مختلف القطاعات ولمس واقع الأمور من ميادينها وأهلها قام به مؤلف الكتاب (فرديناند فورتيز) وطبع في عام 1988م وحصل على أفضل الكتب مبيعات في "نيويورك تايمز" عام 1998م أي بعد عشر سنوات من طباعته .. لماذا؟ لأن المنافسة في الولايات المتحدة وغيرها اشتدت ضراوتها في نهاية التسعينيات، فبدأت الشركات مع قوة المنافسة تبحث عن السبل والطرق التي تساعدها لحل مشكلاتها الإدارية وترفع من درجة أداء موظفيها، وكان هذا الكتاب من أفضل الكتب التي ساعدتهم في هذا الباب، وسأذكر بعضا من التعليقات التي صدرت عن الكتاب التي تعكس محتوى الكتاب التي تعد كافية لتلخيص قيمة هذا الكتاب ودافعا لقراءته.
- فقد ذكرت مجلة "النجاح" أنه " كتاب لا يقدر بثمن".
- بينما مجلة "المبدعين" قالت: "بلغة سهلة ومباشرة، فورتيز (المؤلف) يعرض حلولا لمشكلات أداء الموظفين، فيجب أن يكون الكتاب على طاولة كل من يدير الآخرين".
- وقالت مجلة "شو توك" أجوبة مباشرة لأسئلة طالما سألها المديرون أنفسهم أكثر من مرة ـ كتاب فورتيز ـ يعطي ما يعد به عنوانه:
هذا ما قيل عن الكتاب، فماذا عن الكتاب نفسه، يتكون الكتاب من 160 صفحة من الحجم المتوسط، مقسم إلى أقسام أهمها وأكبرها الجزء الأول تحت اسم "التأثيرات الخفية التي تؤثر في أداء كل شخص"، وطرح 16 سببا من الأسباب التي تؤثر في أداء الموظفين تمثلت في ثلاثة أرباع الكتاب، بعد ذلك جاء الجزء الثاني وتكلم عن أمر مهم وهو "الإدارة الوقائية، أسلوب إداري جديد يضمن لك الحصول على أفضل النتائج وتحدث في الجزء الثالث عن جانب مهم آخر وهو استثمار العلاقة الإنسانية مع الموظفين بسؤالهم عن حياتهم والاهتمام ببعض أمورهم العائلية والشخصية، ما يزيد من انتمائهم لعملهم عندما يشعر الموظف بأن الشركة ليست فقط مهتمة بما يعنيها فقط بل إن الموظفين يعدون من الموارد المهمة لها.
بقي أن نعلم أن ميدان هذا الكتاب هو أمريكا حيث الإدارة متقدمة والحس الإداري موجود، والحرص على الأداء ورفع مستواه أمر ذو أهمية، هذا هو وضعهم ويعملون على تحسين أوضاعهم وتطويرها أكثر. ولكننا من باب أولى في العالم العربي أن نعطي هذه الأمور حقها وتأخذ الأمور الإدارية أهميتها، وأن نبدأ في معالجة أوضاعنا بكثير من الاهتمام والواقعية وليس الشكلية والحرص على الظهور في وسائل الإعلام والتصدي لأي نقد وطرح وكأنه يمسنا شخصيا، وسنستعرض الأسباب التي ذكرها المؤلف كما ذكرت في الجزء الأول من الكتاب تحت عنوان: التأثيرات الخفية التي تؤثر في أداء كل شخص، ذكر أن هناك 16 سببا سنحاول أن نأتي في هذا المقال على سبب أو سببين فقط والبقية في المقال القادم.
السبب الأول الذي أورده هو: "الموظفون لا يعلمون لماذا يجب عليهم القيام بهذا العمل؟" فيبدو عليهم عدم الاهتمام لأنهم لا يعلمون لماذا يجب عليهم القيام به، إذ يجب إعطاؤهم الصورة كاملة لمهام المنظمة (الشركة أو الوزارة) وجعل هذا الأمر وكأنه شخصي بالنسبة لهم. كما يقول المؤلف غالبا ما يصف المديرون عدم حسن الأداء للموظفين بطريقة مختلفة مثل:
- لا يعتقدون أن الأمر مهم.
- إن الأمر لا يستحق الجهد.
- إنهم لا يرغبون في القيام بالعمل.
- يقولون لماذا يجب علي القيام به .
- أو أنهم لا يهتمون.
طبعا فالمديرون يحاولون إقناع أنفسهم بأن السبب يعود للموظفين أنفسهم، وهذا تصرف طبيعي بأن تعتقد أن التقصير سببه غيرك، ولكن كيف توصل المؤلف إلى السبب الحقيقي من خلال حوار بينه وبين أحد المديرين على النحو التالي:
المؤلف : لماذا لا يقوم الموظفون بما ينبغي عليهم القيام به؟
المدير: لأنهم لا يهتمون.
المؤلف: لا يهتمون بماذا؟
المدير: لا يهتمون بالقيام بالعمل.
المؤلف: لماذا لا يهتمون بالقيام به؟
المدير: لأنهم لا يعلمون أهميته.
المؤلف: ماذا تقصد.
المدير: لا يدركون حجم الضرر على الآخرين لعدم قيامهم بعملهم.
المؤلف: تقصد أنهم لا يعلمون لماذا يجب عليهم القيام بهذا العمل.
المدير: هذا صحيح.
يقول المؤلف إن مثل هذا الحوار يوضح حقيقة مهمة في إدارة الأداء والنتائج، وهي أن المديرين لا يبذلون الجهد ولا يحددون المشكلات الحقيقية في عدم أداء الموظفين مهامهم كما يُطلب منهم.
ويوضح المؤلف أنه مثل إجابات المدير هذه تعطي انطباعات خاطئة عن السبب الحقيقي في عدم قيام الموظفون بما ينبغي القيام به، هذا الفهم الخاطئ أو عدم التأكد من السبب الحقيقي، غالبا ما يؤدي إلى قرارات غير صحيحة تزيد من حجم الضرر والمعاناة، ويشرح الكتاب مزيدا من هذا والحلول حيالها.
أما السبب الثاني الذي أورده المؤلف فهو:
"لا يعلمون كيف يمكنهم القيام بمهامهم كما ينبغي"، ويلخص المؤلف خطورة هذا الإيضاح - إخبارهم بما يجب عليهم القيام به لا يعني تدريبهم وتعليمهم - واعتقادك أنهم يفهمون كيف يؤدون أعمالهم دون التأكد سيكلف كثيرا من المال والجهد والوقت، وكلنا يدرك ثمن ذلك وآثاره السلبية على تنمية البلد ومشاريعها وتحقيق أهدافها.
والسؤال المهم هو: كيف نتأكد أنهم يعرفون ويتقنون ما يجب عليهم القيام به. ولإيضاح الفجوة وخطورتها وما مدى انعكاسها يتحدث عما يقوله الموظفون من أعذار أو مقولات تبرر لهم (أي الموظفين) عدم معرفتهم بأداء أعمالهم - وفي المقابل يتحدث المؤلف عن موقف المديرين حيال طلب موظفيهم مساعدتهم على أداء أعمالهم، هذا ما سنتطرق له في المقال القادم مع بقية الأسباب التي أوردها المؤلف وغيرها.
والله من وراء القصد؛