قصة معوق أمريكا الموهوب (2 من 2)
(يعطيني المعادلة الصعبة)
في المقال السابق تطرقنا إلى قصة معوق، كان لي معه موقف محرج في أحد محال أمريكا التجارية. بدافع العاطفة الإنسانية وحب عمل الخير، أعطيت هذا المعوق قليلا من المال لكي أفرج كُربته وكُربة أسرته. لم أكن أعلم أنني قد اقترفت ذنبا أو عملت جريمة كبرى أستحق عليها العقاب الصارم. هذا ما استقيته من نظرات وتصرفات هذا الشاب المعوق إعاقة كاملة. أطرافه ذابلة، وجسمه نحيل، ولا يستطيع الكلام. أما بالنسبة لرأسه فيبدو أنه عادي وسليم، ولكن عيناه جاحظتان كادتا أن تخرجا من رأسه عندما غضب. هذا الشاب يستخدم ذقنه في تحريك عربته عن طريق حساس صغير من خلاله يستطيع التحكم في أزرار العربة، إذ إن هذه العربة يوجد فيها عدد كبير من الأزرار وشاشة صغيرة وسماعة صوت.
بعد وصول والده وأمه - التي كانت هي الأخرى حادة الطبع - إلى موقع الحادث، بدأت الأسرة الأمريكية التي رأت أحداث القصة كاملة بالدفاع عني وشرح القصة بهدوء كامل لأسرة المعوق. بعد ذلك اقترب مني والد الشاب لكي يحدثني بعد أن شرحت له عاداتنا وتقاليدنا، وأن عندنا من يصر على الشحاذة رغم أنهم أصح من ابنك.
فقال لي: لكم عاداتكم وتقاليدكم ولنا عاداتنا وتقاليدنا. ويجب عليك تقديم أسفك إلى الشاب "جان" فقلت له: وهل "جان" هذا يفهم ما أقول؟ قال: نعم إنه ذكي جداً ويعمل في المركز الوطني للأبحاث والمعلومات في المدينة. ذهبت إلى "جان" وقلت له: أنا آسف فلقد نظرت إليك بعين العطف والحنان اللذين اكتسبناهما من بيئتنا. تفتحت أسارير "جان" وعادت عيناه الجاحظتان إلى رأسه وابيضتا بعد احمرار وانطفأ غضبه وابتسم ابتسامة بريئة وصادقة. بعد ذلك حرك ذقنه بسرعة فائقة، وإذ بالعربة تتنفس الصعداء قائلة: اقترب مني. فلم أحرك ساكناً وتجمدت مكاني، وتخيلت رصاصة قد تخرج نحوي من أي مكان من هذه العربة، متجهة مباشرة إلى القلب. ثم نظرت يمنه ويسرة كأني لم أسمع شيئا رغبة مني في الهروب قبل أن يحدث شيء لا تحمد عقباه. اقترب مني والد الشاب وطلب مني الاقتراب حسب أمر "معالي" صاحب العربة. اقتربت من العربة ببطء شديد، إذ إن الأقدام ثقلت ودقات القلب قلت إلى أقل من الطبيعي بعد أن رفعها صراخه المفاجئ في المرات السابقة. كنت حذرا وتعمدت الوقوف بجانبه.
فجأة: سمعت صوتا حادا من هذه العربة اللعينة، أتى الأمر الثاني مختصرا ومحددا. طلبت مني العربة قراءة الشاشة. كان هناك جملة مختصرة جداً، كتبت على هيئة معادلة: الموهبة + العمل + القدرة = التميز، وفجأة ظهرت على الشاشة جملة أخرى على هيئة حكمة:
أفضل ما يظهر به الشخص عمله وليس شخصه. الله الله .. كم هي معادلة صعبة وحكمة عظيمة تخرج من هذا المعوق العظيم. اقتربت من الشاب كثيراً وكدت أقبل جبينه (حسبما تعودت عليه) ولكن الله ستر فقد تكون جريمة أكبر من سابقتها. فقد تعد تحرشا جنسيا. عندما شعر الشاب بتفاعلي معه وطمعي في المزيد من العلم والمعرفة، حرك العربة بسرعة فائقة وتركني متصلبا وسط المحل. أما بالنسبة للأم فكانت تنظر إلي بتشف فقد تفتحت أساريرها وشفي غلها تصرف ابنها.
وبعد هذا الموقف المحرج الذي أخذ مني وقتاً طويلاً من التفكير والتحليل والمقارنة بين أحوال كثير من المسلمين وحال هذا الشاب؛ إذ إنني أجد فئة من شبابنا عاطلة عن العمل، وتعيش معظم وقتها عالة على الأقارب والأصدقاء، إلى أن يملوه و يكرهوا تصرفه، فيذهب إلى هذا وذاك، لكي يستلف، ويستدين، ومن ثم تسوء سمعته، ويقل قدره عند الناس. والسبب الأساسي هو الكسل، وعدم معرفة حقيقة الحياة، التي هي في الأصل معاناة من أجل العيش الشريف، والتضحية من أجل الضعفاء. فالشاب القوي الذي متعه الله بعقل سليم، يجب أن يستغل وقته في العمل الصالح، الذي يعود عليه، وعلى مجتمعه بالخير. فهو ثروة الوطن الحقيقية.
هذا الشاب الأمريكي حوّل الإعاقة إلى حركة وتفكير وعمل وحيوية ونشاط وردّ اعتبار، ولم يستغلها لجلب المال، واستغلال عواطف الناس، والبحث عن صدقاتهم. كم كنت أتمنى أن يكون لدى شباب هذه الأمة العزم والتصميم والإرادة التي يملكها ذلك الشاب المعوق! قد يقول قائل: معظم شبابنا مثل ذلك الشاب، بل أحسن بكثير؛ لما حباهم الله من صفات إسلامية طيبة، من شأنها خدمة البشرية. ولكن اللوم يقع على الأجهزة والمؤسسات والمجتمع؛ لعدم توافر الإمكانات. فأنا أقول: فقط نحاول تكييف أنفسنا حسب الموجود، ولا ننظر إلى من هم أكثر منا تقدماً حضارياً. ولكن نحاول أن نعمل في إطار إمكاناتنا وبإخلاص وصدق كما فعل أسلافنا، فقد وصلوا إلى قمة العلم والحضارة والتقدم على مستوى الإنسانية جمعاء وهم لا يملكون الإمكانات المادية التي نملكها اليوم. ولكن تصميمهم وإرادتهم أقوى منا، إضافةً إلى سمو هدفهم الذي كان إعلاء كلمة الله في الأرض.