عندما تنتقم الأسواق .. سوق النفط مثالاً
ارتفعت أسعار البنزين في الولايات المتحدة في الأسابيع الأخيرة إلى مستويات قياسية. هذا الارتفاع لا يعود إلى ارتفاع أسعار النفط على الإطلاق، بل على العكس، بدأ ارتفاع أسعار البنزين يرفع أسعار النفط في الأيام الأخيرة. ما نراه في أسواق النفط الأمريكية ما هو إلا "انتقام" قوى السوق ممن كبتها كبتاً شديداً وحاول تغييرها بالقوة خلال السنوات الماضية. فقد فرضت الحكومة الأمريكية قوانين بيئية عشوائية من دون النظر إلى الآثار السلبية التي يمكن أن تحدثها هذه القوانين. نتج عن هذه القوانين عدم بناء أي مصاف جديدة خلال العقود الثلاثة الماضية، وتعديل المصافي كلما تغيرت هذه القوانين، وتوسيع المصافي القديمة. هذه التغيرات زادت من تركيز كمية الإنتاج في المصافي القديمة، الأمر الذي أدى إلى زيادة أعمال الصيانة وتوقف المصافي بسبب هذه الأعمال، وزيادة الأعطال الفنية والحرائق.
ثم قامت الحكومة الأمريكية بإجبار المصافي على مزج البنزين بالإيثانول، الذي يجعل البنزين عرضة لعوامل الطقس, لأن الإيثانول يأتي من الذرة، ويجب نقله بالشاحنات لعدم إمكانية نقله بالأنابيب، كما يجب مزجه في نقط التوزيع، وليس في المصافي. هذا التدخل الحكومي في شؤون أسواق النفط أدى إلى الارتفاع الكبير في أسعار البنزين في الولايات المتحدة. الملاحظ أن انتقام الأسواق كان كبيراً من الولايات التي أقنعت الحكومة الفيدرالية بتبني الإيثانول حيث ارتفعت فيها أسعار البنزين أكثر من غيرها.
في الوقت نفسه نرى أن أسعار خام برنت ما زالت أعلى بكثير من خام غرب تكساس، مع أنه يجب أن يكون العكس. هذا يعود أيضاً إلى التدخل الكبير للحكومات الأوروبية في أسواق النفط، وبخاصة بريطانيا, التي فرضت قوانين صارمة وضرائب عالية على الشركات المنتجة للنفط في بحر الشمال. وهنا علينا ألا ننسى أن أحد أسباب ارتفاع أسعار النفط في أوروبا هو إضراب عمال ثالث أكبر ميناء لتصدير النفط في العالم في فرنسا. هذا مصدر آخر لكبت أسواق النفط، وها هي الأسواق تنتقم عن طريق ارتفاع كبير في أسعار النفط في الأسواق الأوروبية، وبخاصة فرنسا.
دروس تاريخية
1 ـ قوى السوق، سواء آمن بها البعض أم لم يؤمن، من أقوى العوامل المغيرة للتاريخ، وبخاصة على المدى الطويل. قدرتها على التغيير، قدرتها على الانتقام، قدرتها على التدمير، قدرتها على التصحيح، قدرتها على تحقيق الاستقرار، قدرتها على تحقيق العدل، تجعلها أقوى من الجيوش الجرارة، وتجعلها أقوى من كل الأفكار الشيوعية والاشتراكية. لقد تهاوت كل هذه القوى أمام قوى السوق. قوى السوق، ممثلة في العرض والطلب، وجدت منذ بداية الإنسانية، واستمرت حتى يومنا هذا. استمرارها، رغم زوال مئات الحضارات، دليل على قوتها. من هنا كان الإسلام منطقيا مع نفسه عندما رفض التسعير، ورفض التدخل في السوق، وقرر إرساء قواعدها على أساس أخلاقي متين.
2 ـ قد تنجح بعض الأنظمة في كبح قوى السوق، ولكن هذا الضغط سيولد ضغطاً معاكساً يجعل "قوى السوق" قنبلة موقوتة في وجه من يحاول أن يكبتها. قد تكبتها بعض الأنظمة باستخدام الحديد والنار، وقد تكبتها بعض الأنظمة بسبب تصورات خاطئة فتقبل قوانين الكبت بسعادة ظناً منها أنه الحل الأمثل لمشكلات البلد. الطريقة الأمريكية في كبت الأسواق اعتمدت على إنشاء قوانين ملزمة قام بكتابتها شركات اللوبي الضخمة الممولة من شركات لها مصالح خاصة. ثم بدأت الولايات المتحدة مساراً جديداً بعد حادثة 11 أيلول (سبتمبر) حيث بدأت في كبت الأسواق وتسيير أمور بعض الصناعات بناء على فكرة "محاربة الإرهاب"، خاصة صناعة النفط.
3 ـ مهما كان سبب الكبت إلا أن هناك قوانين فيزيائية ثبت من أحداث كثيرة انطباقها على الأسواق، بما في ذلك أسواق الطاقة: كلما زاد الكبت والضغط على السوق، كان الانفجار أكبر، والعواقب أسوأ. وهناك بعض الأدلة التي تشير إلى أنه كلما زاد خطأ مسوغات الكبت، كانت الآثار أسوأ.
4 ـ رغم أن قوى السوق لها مساوئها بسبب عدم قدرتها على توازن قوى القطاعات الاقتصادية داخلها حيث تعطي قوة مميزة لرأس المال على حساب العناصر الأخرى (يمكن النظر إلى قوى السوق على أنها أكثر فاعلية وأقل دماراً في نظام اقتصادي إسلامي يحد من قوة رأس المال ويعيد التوازن لقوى السوق. فهو يحد من حرية رأس المال في تدمير السوق عن طريق تحريم الربا وإيجاب الزكاة، الأمر الذي يوضح أن النمو الاقتصادي في الإسلام مرتبط بترابط أمور ثلاثة لا يمكن أن يتم من دون أحدها: حرية الأسواق، تحريم الربا، وتطبيق الزكاة)، إلا أنها ما زالت أقل خطراً من أنظمة "الكبت الاقتصادية" التي تكبت الأسواق تحت شعارات العدالة والوطنية وغيرها وتقوم بتحديد الأسعار وتتدخل في قرارات الإنتاج.
5 ـ من مزايا قوى السوق أنها تنتقم من كل من حاول أن يكبتها أو شارك في كبتها، وتحقق بعض العدالة للطرف الآخر. العيب فيها أنها تعم في دمارها حيث تنتقم من كل من هو "طرف" في صناعة ما لأنها تعد أن هذا الطرف، سواء شارك في "الكبت" أم لا، انتفع من هذا الكبت. فانتقام قوى السوق من منتجي النفط شمل كل المنتجين، سواء شاركوا في "كبت الإنتاج" أم لا. وانتقام أسواق النفط من الدولة المستهلكة بسبب "كبتها " الأسواق بحجة "أمن الطاقة" وغيرها يشمل كل المستهلكين والدول المستهلكة، حتى الدول التي لم تشارك في هذه السياسات. لكن الأدلة تشير إلى أن انتقام الأسواق من الدول المشاركة في "الكبت" أكبر بكثير من الدول غير المشاركة.
6 ـ قيام "أوبك" بتحجيم الإنتاج لرفع أسعار النفط هو "كبت" للسوق، ودفعت "أوبك" ثمناً عالياً لهذا "الكبت" عندما انخفض الطلب العالمي على النفط في أوائل الثمانينيات وانخفضت أسعار النفط إلى أقل من عشرة دولارات للبرميل في منتصف الثمانينيات، وانتقمت السوق من دول "أوبك" أيما انتقام. ولكن عدالة السوق ظهرت في السنوات الأخيرة عندما ارتفعت أسعار النفط بشكل كبير، وانتفعت "أوبك"، وتضررت الدول المستهلكة، بخاصة الولايات المتحدة، بسبب تدخلاتها السافرة في أسواق النفط خلال العقود الماضية سواء بكبت إنتاج النفط في دول فرضت عليها مقاطعات اقتصادية، أو عن طريق تشويه سمعة منتج ما، أو غيرها.
خلاصة الأمر: السوق تتمتع بذاكرة طويلة المدى ولا تنسى إطلاقاً، وهي المنتصر في النهاية، وهي التي ستنتقم كيف تشاء. السوق في النهاية عادلة في أحيان عدة، خاصة أن توزع هذا "العدل" على دول العالم بغض النظر عن العرق واللون والدين والموقع. ما نراه الآن في أوروبا والولايات المتحدة هو انتقام سوق النفط من الكبت الأوروبي والأمريكي. حتى النفط ينتقم ممن ظلمه!