أبعاد أخطر للفشل الأمريكي في العراق وأفغانستان
تبدو غريبة ومخيفة في الوقت نفسه تلك الأوضاع التي وصلت إليها الدول العربية والمسلمة التي خضعت خلال السنوات الأخيرة لتدخلات عسكرية مباشرة من الولايات المتحدة أو من دول حليفة لها، وبالتحديد في أفغانستان والعراق وأخيراً الصومال. والغريب أولاً هو أن الحجة الرئيسية للغزو العسكري الأمريكي لكل من أفغانستان والعراق والتدخل العسكري الإثيوبي في الصومال كانت هي الحرب على الإرهاب، ثم بعد ذلك إنقاذ تلك الدول التي اصطلح على تسميتها أمريكياً "الدول الفاشلة" مما هي فيه من أوضاع متدهورة وتفكك ببناء دول عصرية وديمقراطية فيها. أما المخيف فهو أن كلا من العراق وأفغانستان بعد هذه السنوات من الاحتلال الأمريكي العسكري والصومال بعد شهور من التدخل الإثيوبي، قد أصبحت على صعيد العنف والإرهاب من أكثر دول العالم معاناة منهما وباتت شعوبها هي الأولى في قائمة ضحايا كل منهما على مستوى العالم.
وربما يكون الأكثر خطورة هو مصير المهمة الأمريكية الثانية المتعلقة ببناء دول عصرية وديمقراطية في البلدان الثلاثة وبخاصة في أفغانستان والعراق، فما حدث في الحقيقة هو هدم معظم ملامح الحداثة فيها وما كان قائماً من مكونات الدولة وعناصرها والعودة بشعوبها ومجتمعاتها إلى مرحلة الانتماءات والهويات الأولية التي راح الجميع يتصارع حولها وبسببها. ففي أفغانستان تبدو الدولة اليوم منحسرة في أجزاء من العاصمة كابول غير قادرة لا على الوفاء بحاجات المجتمع الاقتصادية والاجتماعية والخدمية ولا على حفظ أمن أفراده وفئاته المختلفة ولا حتى أمنها هي نفسها. وبدت الدولة في هذا البلد منذ مراحل الإعداد للغزو العسكري ثم مع تشكيل مؤسساتها بعد نجاحه معبرة عن أعراق ومجموعات لغوية وقبلية أكثر من تعبيرها عن مجتمع بأكمله متعدد الأعراق والمذاهب واللغات. وانتهى الأمر بعد سنوات ست من الاحتلال العسكري الأمريكي والأطلنطي إلى تأكيد الانقسام العرقي والقبلي في أفغانستان وليس إلى إلغائه كما كان الشعار الأمريكي الأصلي، وهو ما أدى في أرض الواقع إلى ضخ تأييد واسع ومستمر لحركة طالبان التي أقصاها الغزو من الحكم من مختلف قطاعات قبائل البشتون الذين يمثلون العرقية الأكبر عدداً في البلاد والأكثر استبعاداً من الدولة الجديدة لصالح الأعراق الأخرى التي سيطرت على مختلف قطاعات الدولة ومؤسساتها. وهكذا عادت أفغانستان إلى عهد ما قبل حكم طالبان وربما أسوأ ونأت بها المسافات عن تلك الدولة العصرية القائمة على المواطنة وعلى الحقوق المتساوية والمؤسسات الفاعلة المتعاونة معاً والمنتخبة ديمقراطياً.
أما في العراق فقد بدا المشهد بعد سنوات الاحتلال الأربع أكثر سوءاً وخطورة، فقد وضع الأمريكيون مع بعض أصدقائهم العراقيين دستوراً للبلاد أقر المذهبية والانفصال العرقي بين مختلف الطوائف والفئات العراقية ورتب لبعضها حقوقاً تجاه الآخرين الذين أجبروا على الموافقة عليها، بما أدى في النهاية إلى تفجير قضايا خطيرة فيما بينهم لعل آخرها وأبرزها اليوم مصير مدينة كركوك المتنازع حولها. كذلك فقد نجح الاحتلال الأمريكي بصورة غير مسبوقة في التاريخ الحديث للعراق في تقسيمه بصورة واقعية جغرافياً بين طوائفه الثلاث: العرب السنة والشيعة والأكراد، بما وضعنا أمام أقاليم مستقلة تقريباً عن بعضها بعضا لا يجمع بينها سوى الوجود العسكري لقوات الاحتلال أو للقوات الأمنية والعسكرية الحكومية المتحالفة معها. وفي ظل تلك الأوضاع الآخذة في التردي هوى العراق في قاع الصراع المسلح الطائفي والمذهبي غير المسبوق في تاريخه الحديث والذي راح يحصد الآلاف من أبنائه السنة والشيعة على حد سواء، وارتبط ذلك بمزيد من التقسيم الجغرافي المذهبي والطائفي عبر الهجرة الداخلية التي زاد عدد من قاموا بها عن ثلاثة مليون عراقي حسب تقارير مفوضية اللاجئين بالأمم المتحدة، ذلك غير مثلهم تقريباً غادروا وطنهم إلى بلدان أخرى. وبذلك لم يفشل الأمريكيون فقط في إنشاء مجتمع عصري ودولة حديثة في العراق، بل دمروا ما كان قائماً فيه من وحدة مجتمعية أركان دولة حتى لو لم تكن حديثة، وقبل كل ذلك تسببوا في قتل وتهجير المواطن الذي زعموا أنهم ذهبوا هناك من أجل تحريره وإعادة حقوقه الأولية إليه.
ويبدو أن الأوضاع في الصومال كما تبدو عليه تطوراتها الأخيرة لن تختلف كثيراً عما جرى للعراق وأفغانستان وإن كانت سوف تأخذ مسارها وفق الظروف الداخلية الخاصة بهذا البلد. فالتفتت القبلي والعشائري والمناطقي بدأ في الظهور بوضوح خلال الصراع المسلح الذي راح ينتقل من منطقة لأخرى في الصومال خلال الأسبوعين الأخيرين بما في ذلك الانقسامات المتتالية داخل مؤسسات الدولة والتي بدأت في البرلمان ثم امتدت إلى الحكومة.
والسؤال الذي يطرح نفسه بعد كل ذلك: هل لا تزال الإدارة الأمريكية تنظر لمصير ما قامت به في تلك البلدان باعتباره مجرد إخفاق أو فشل عسكري يمكن معالجته بزيادة عدد القوات والأسلحة أو حتى باتخاذ قرار بالانسحاب منها، أم أنها تدرك وعليها أيضاً أن تعترف بما أوصلتها إليه من مصير بائس وكارثي لم يكن أحد في العالم كله يتخيله لها؟