طفلنا العربي وهويته المهددة
ليس من باب المجاملة أو المبالغة أو غيرهما الإشادة بالدور المهم الذي يمكن وصفه فعلا بالدور المحوري الهادئ والبعيد عن المبالغة الإعلامية الذي يقوم به الأمير طلال بن عبد العزيز رئيس برنامج الخليج العربي لدعم منظمات الأمم المتحدة ورئيس المجلس العربي للطفولة والتنمية, في إطار الاهتمام بقضايا الطفل العربي من كل الجوانب برؤية معمقة ومنهجية علمية وقدرة إدارية تثير الإعجاب. ومن نافلة القول هنا تعداد جهود الأمير طلال ونشاطه في هذا المجال, فقد نذر نفسه وجهده وفكره وحتى ماله للاعتناء بالقضايا الجوهرية ذات الصلة المباشرة بالشؤون التنموية الاجتماعية والإنسانية على مستوى الخليج والعالم العربي, ومنها بالتحديد قضايا الطفل العربي, عبر مؤسسات وبرامج مستقلة وذات طابع قومي منذ سنوات طويلة. وكان لشخصيته, بخبرته الثرية وعقليته الإدارية المتحررة من الروتينية وفكره المستنير, دور مؤثر في إضفاء لمسات إيجابية على عمل وأداء وإنتاجية كل الإدارات والبرامج التي يرأسها ويديرها.
في هذا السياق جاء اعتناء واهتمام الأمير طلال بكل شأن يرتبط بالطفولة واضحا وبارزا من خلال مشاركة برنامج الخليج والمجلس في تنظيم المؤتمرات والندوات المتخصصة التي تبحث قضايا الطفولة على وجه الخصوص وتعالجها, ومن ذلك رعايته مؤتمر "صحة الطفل العربي .. استثمار أمة" في مدينة الرياض أوائل هذا الأسبوع, الذي تنظمه وزارة الصحة السعودية وبرنامج الخليج العربي لدعم منظمات الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية, ويأتي عقد مثل هذا المؤتمر بهذا الحشد المكثف والمهم وبمشاركة عدة جهات وشخصيات فاعلة دليلا على هذه الجهود المهتمة بطفلنا وقضاياه بطرق علمية وجهود مشتركة لمناقشة مثل هذه القضايا المحورية ومعالجتها. وضمن هذا الاهتمام أيضا قيام "المجلس العربي للطفولة والتنمية" بالتعاون مع الجامعة العربية بعقد مؤتمر "لغة الطفل العربي في عصر العولمة" في القاهرة الأسبوع الماضي بشراكة مع برنامج الخليج العربي لدعم منظمات الأمم المتحدة الإنمائية والصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية العربية واليونيسكو والمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة, والذي تزامن مع الاحتفالات الدولية باليوم العالمي للغة الطفل, الذي جاء متزامنا أيضا مع الاحتفال بمرور 20 عاما على إنشاء المجلس العربي للطفولة والتنمية. وهذا النشاط الواسع والمتعدد والمتعلق بقضايا الطفل العربي الذي يشرف عليه الأمير طلال في معالجة هادئة ومعمقة وبأسلوب علمي لكل شؤون الطفل العربي, يأتي وفق رؤية واعية بأهمية تنشئة الطفل على أسس سليمة. ومن أبرز أوجه هذا الاهتمام اختيار قضية لغة الطفل العربي في زمن العولمة, هذه العولمة التي تطغى فيها الثقافات المهيمنة والمسيطرة بلغاتها وثقافاتها, كجزء من جهود المجلس ورئيسه في الاعتناء بهوية طفلنا العربي المهددة فعلا في مناخ عولمة مؤثر في هويته الوطنية التي هي من أهم المكونات التي يجب المحافظة عليها وحمايتها من التأثيرات المقوضة لها. وهو ما لا يتعارض مع التفاعل الإيجابي مع الثقافات الأخرى والاستفادة منها ضمن أطر الهوية الأصلية, التي تأتي اللغة كأحد أهم مكوناتها, خصوصا اللغة العربية ذات المضامين الدينية والقومية والثقافية المتجذرة في الهوية العربية والإسلامية. ولأهمية هذا الموضوع وصلته المباشرة بالهوية, يمكن القول وبجدية إن هناك تحديات مؤثرة يتعرض لها تكوين الطفل العربي اللغوي في زمن العولمة, وهذا ما نبه إليه الأمير طلال على هامش مؤتمر لغة الطفل العربي حين حذر من "خطورة التحديات التي يواجهها الطفل العربي والتي تحد من تواصله لتكوين هويته العربية وثقافته ولغته القومية", وطالب الدول العربية بالتنبه لهذه القضية للحفاظ على هذه الهوية.
الاعتناء بالطفل العربي على وجه الخصوص, من الجوانب كافة, عملية حضارية ومؤسسية ترسي عمقا للأمة كلها, فهذا الطفل هو الذي سيصبح رجل الغد, وحين يهمل ولا يعتنى بشؤونه, نرتكب جناية فادحة بتركه عرضة للتنشئة الهشة الضعيفة صحيا ونفسيا وثقافيا بحيث يصبح سهل الاحتواء من قبل ثقافات أخرى تملك أدوات تأثير نافذة, وحين نركز على تنشئته التنشئة المتكاملة والصحيحة المرتبطة بمكونات الهوية الوطنية للأمة, نكسب جيلا محصنا قادرا على التعامل مع عالم يسير نحو الانفتاح بلا حدود ثقافية على وجه الخصوص بهوية وطنية أصيلة, ليكون قادرا على التأثير مثلما يكون قابلا للتأثر بإيجابية من موقع قوة لا ضعف. ففي وسط هذا الجو "العولمي" يكون طفلنا العربي في أمس الحاجة, في زمن تكتسح فيه العولمة على ظهر وحش إعلامي وثقافي يحطم كل الحدود ويبتلع الهويات الوطنية لإلحاقها بهوية عالمية أوسع, إلى مؤسسات أهلية غير حكومية حتى لا تكون مقيدة الحركة, تعنى بتحصين طفلنا العربي من تأثيرات الجانب السلبي في ثقافات العولمة, وليس خافيا أننا كأمة عربية وإسلامية مستهدفة في هويتها الدينية والثقافية لإضعاف ارتباطها بقضاياها حتى يسهل سلبها, وحتى يمكن تمرير ثقافة الاستهلاك المفتوح بلا قيود قيمية وأخلاقية لجعل الأمر جزءا من مجتمع عالمي يكون دينه وتكون ثقافته قائمة على الاستلاب والدمج تحت هيمنة عالمية كاملة تسيطر فيها ثقافة الأقوياء تحت غطاء العولمة.
من هنا تأتي قضية اللغة عنصرا مهما في تكوين هوية طفلنا العربي, ولعل فيما طرح في مؤتمر "لغة الطفل العربي في زمن العولمة" من بحوث ودراسات ما يؤكد ما حذر منه الأمير طلال, خصوصا من ناحية ازدواجية اللغة التي يتعرض لها الطفل العربي اليوم, إذ ستسهم, إن لم تعالج بالطرق الصحيحة, في إضعاف هذا المكون الأساسي للهوية الوطنية والقومية وهو اللغة الأم لصالح لهجات مغرقة في المحلية ولغة هجين من مفردات أجنبية وعامية تهدد بالفعل قدرة الطفل على التواصل بلغة عربية سليمة تشكل محتواه المعرفي والثقافي, الذي يربطه بهويته العربية الإسلامية في زمن عولمة كاسحة. وإن كنا نعترف بجوانبها الإيجابية من ناحية الاندماج في مجتمع عالمي, إلا أننا لا بد أن نحذر من تأثيراتها السلبية, خصوصا من تأثير ثقافتها الطاغية التي ستقوض أسس الهويات الهشة والضعيفة.
لقد أحسن المجلس العربي للطفولة والتنمية, وأحسنت الجامعة العربية بالذات بطرح هذه القضية الجوهرية, إلا أن العبرة ليس في عقد المؤتمرات والندوات, بل العبرة في تأسيس منهج عمل جاد لجعل لغتنا العربية بكل مضامينها الدينية والثقافية والحضارية العنصر الأساسي في المحافظة على هويتنا العربية الإسلامية.