بين "بيشة" و"أنعام"
لم يطب لهيئة سوق المال أن ينتهي العام الهجري إلا مختوما بأحداث يسجلها التاريخ، فإيقاف سهمي "بيشة" و"أنعام" حدث يجب ألا يمر بسهولة أمام المراقبين، فمثل هذا الإجراء يؤكد بداية تاريخ جديد لوضع السوق المالية السعودية، وهذا الحدث بلا شك ضربة موجعة للشركات الهزيلة وغير الفاعلة في السوق، كما أنه يرسل برقية عاجلة لشركات الخشاش الأخرى فقد بدأ عصر جديد!!
لقد كانت شركتا بيشة وأنعام من أبرز الشركات الخاسرة في السوق المالية، حيث بلغت الكميات المتداولة على سهمي هاتين الشركتين فقط 4.49 مليار سهم في عام 2006، في حين بلغت قيمة الأسهم المتداولة لهذين السهمين فقط 248 مليار ريال، الأدهى من ذلك أن شركة أنعام احتلت المركز الثالث من حيث حجم التداول بمبلغ 172 مليارا لم يسبقها في ذلك سوى شركتي سابك والكهرباء، وقد بلغت قيمة الأسهم المتداولة على رأس المال لشركة أنعام 143 ضعفا، في حين بلغت على "سابك" 92 ضعفا، ولـ "الكهرباء" 49 ضعفا، وشتان بين الثرى والثريا، يا للهول.. لقد أصاب شؤم هاتين الشركتين الكثير من المتعاملين، ويجمع هاتين الشركتين مع مجموعة أخرى من الشركات اتفق على تسميتها بـ "الخشاش" عدة صفات وأحوال جعلت السوق السعودية محل سخرية المستثمرين والمتعاملين في كل مكان، وقد كان وجود هذه الشركات ومازال سببا وعاملا رئيسيا لشذوذ السوق السعودية عن القواعد العامة في الأسواق المالية.
لقد صرح مراجع حسابات "بيشة" في تقريره للربع الثالث بأن خسائر الشركة ستتجاوز رأسمال الشركة إذا ما تحققت الخسائر عن تقييم الاستثمارات، وقد اتخذت الهيئة أخيرا القرار الصائب بإيقاف تداول سهم "بيشة"، فيما أوقفت الهيئة تداول سهم شركة أنعام بعد الإعلان الذي ذكرت فيه الشركة أن الخسائر قد تصل إلى 95 في المائة من رأس المال في 31/12/2006، بسبب خسائرها في استثماراتها الخارجية، وهي أول مرة تتخذ فيها الهيئة قرارا بإيقاف سهم عن التداول بعد إعلان الشركة وليس بالاعتماد على تقريرها المالي، وهذا الإجراء الذي اتخذته الهيئة هو عين الصواب، ويجب أن تشكر الهيئة على شجاعتها في اتخاذه، برغم التحديات التي تواجه السوق وأهمها تدحرج مؤشر السوق للأسفل بشكل أسرع من كرة الثلج.
قرارات الهيئة أعلاه يجب أن تشجع عليها وتحمد لها، وإن كنت أرى أنها تأخرت كثيرا فيه، فالتحفظ في تقرير مراقب حسابات "بيشة" كان موجودا في تقريره عن الربع الأول، واستمر التحفظ نفسه في تقرير الربع الثاني، ومع ذلك لم تحرك الهيئة ساكنا، كما أن الشركات الخاسرة في السوق مازالت تسرح وتمرح مع أنها تعاني من مسلسلات من الخسائر تذكرنا بالمسلسلات المكسيكية، حيث إنها تنخر في هيكل السوق وتشكل العربة التي يمتطيها المتلاعبون للمقامرة في السوق، وهذه الشركات تتم حمايتها باسم النظام، مع أن النظام أعطى هيئة السوق المالية كامل الصلاحية لتعليق أو إلغاء الإدراج لأي ورقة مالية في العديد من الحالات، منها:
* إذا رأت الهيئة ضرورة ذلك لحماية المستثمرين أو للمحافظة على سوق منتظمة.
* إذا رأت الهيئة أن مستوى عمليات المصدر أو أصوله لا تبرر التداول المستمر في أوراقه المالية في السوق.
* إذا رأت الهيئة أن المصدر أو أعماله لم تعد مناسبة لتبرير استمرار إدراج أوراقه المالية في السوق.
وأترك للهيئة الحكم على شركات ضعيفة مازالت أسهمها تتداول في السوق، وهي تعاني من الخسائر لعدة سنوات متتالية، أليس وجود هذه الشركات يمثل خطرا على المستثمرين في هذه الشركات؟ وهل وجود خسائر متكررة أكلت جزءا كبيرا من رأس المال يمكن أن يعطي المبرر للتداولات التي تتم على أسهم بعض الشركات، حتى أن حجم التداول على أسهمها في بعض الأيام يتجاوز حجم رأسمالها!! ويا ترى كم من شركة مدرجة في السوق ستسقط في الاختبار لو تفحصناها لنبحث عن مبررات استمرار إدراج أسهمها في السوق.
إن إخراج هذه الشركات من السوق الرئيسية إلى سوق موازية يتم استحداثها أمر مبرر ومطلوب، حيث تتميز السوق الموازية بخصائص تجعل منها سوقا جادة وليست سوقا للمضاربات غير المحسوبة، ومن أمثلة هذه الإجراءات التي تضبط السوق أن يوقف تداول أسهم الشركات التي تستمر في الخسائر لمدة ثلاث سنوات متتالية، ويستمر هذا الإيقاف حتى تبدأ في تحقيق أرباح، ويوضع حد أعلى لسعر التداول في هذه الشركات، بحيث لا يزيد على ثلاثة أضعاف القيمة الدفترية أو لا يزيد على 15 مضاعف ربحية أيهما أعلى، والأهم أن يكون البيع والشراء في هذه الشركات موقوتا بحيث لا يتم بيع السهم إلا بعد مرور أسبوع على شرائه، كما أن الشركات الجديدة يتم إدراجها في السوق الموازية لمدة سنتين قبل أن تتم ترقيتها إلى السوق الرئيسية، وتتم مراجعة أوضاع الشركات في السوقين الرئيسية والموازية بشكل دوري، لتسكينها في السوق المناسبة لها، بحيث لا يوجد في السوق الرئيسية إلا الشركات القوية والمنضبطة، والتي لا يمكن أن تكون أداة هدم، بل أداة بناء واستثمار، فتتم إحالة الشركات التي تحقق خسائر لمدة ثلاث سنوات على التوالي أو التي لا تحقق ضوابط الهيئة من حيث الشفافية أو الالتزام إلى السوق الموازية، على أن يتم الإعلان عن هذا التنظيم قبل تطبيقه بفترة كافية.
إن ما حدث في شركة بيشة يجب ألا ينظر إليه من جانب الخسارة وتطبيق النظام فقط، ولكن يجب النظر إليه من ناحية المساءلة القانونية لأعضاء مجلس الإدارة الذين أوردوا الشركة موارد الهلاك، حيث إن المجلس لم يكتف بعدم رد أموال دائني الأسهم لهم، بل قام باستثمار أموال الغير (دائني الأسهم) بدون إذنهم، واستثمر هذه الأموال باسم الشركة في محافظ استثمارية ومتاجرة بالأسهم عالية المخاطر، وبعد ذلك كله يخفي الحقائق عن المساهمين والدائنين بعدم الإفصاح عن نتائج هذه العمليات إلا بعد طلب الهيئة بناء على تحفظ المحاسب القانوني.
ختاما.. أعزي المساهمين في "بيشة" و"أنعام"، وهي رسالة إلى مساهمي شركات الخشاش الأخرى، فالبقية في الطريق.. و"إنا لله وإنا إليه راجعون".