توفير المال للحج: "طابونج حاجي" مؤسسة فريدة

[email protected]

هذه قصة نجاح باهرة لمؤسسة ادخار فريدة من نوعها في العالم! إنها قصة "هيئة صندوق ادخار وشؤون الحجاج في ماليزيا" (لمباغا أودسان ضن طابونج حاجي) أسوقها لنرى ونتأمل كيف تمضي الإرادة الصادقة والهمة العالية بأصحابها قدما نحو النجاح، ويا له من نجاح!
طابونج حاجي مؤسسة ادخارية لا نظير لها في العالم، فهي متخصصة في تنمية مدخرات أعضائها من المسلمين الماليزيين (وأصبحت مفتوحة لغير الماليزيين أيضا) لتمكينهم من أداء فريضة الحج (وأضيف إليها أخيرا خدمات العمرة)، عن طريق استثمار هذه المدخرات في مختلف أوجه النشاط الاقتصادي المنضبط بأحكام الشريعة الإسلامية.
كان المسلمون في ماليزيا قبل إنشاء هذه المؤسسة يدخرون أموالهم المخصصة لأداء فريضة الحج إما بطرق تقليدية ( كتجميعها وإخفائها في الوسائد، أو تحت البلاط، أو في أوعية فخارية مدفونة) وإما عن طريق شراء الأراضي والمواشي التي يبيعونها فيما بعد إذا حان وقت أداء الفريضة. كانوا يلجأون لهذه الطرق حرصا منهم على تنقية مدخراتهم من شائبة الربا لعدم وجود بدائل أخرى أمامهم. لكن كثيرا ما كان الحال ينتهي بهؤلاء بعد العودة من الحج إلى متاعب اقتصادية وعدم استقرار معيشي بسبب استغراق هذه الرحلة كامل مدخراتهم وأملاكهم.
وإزاء هذا الوضع الذى كان يتنافى مع مقاصد الشريعة، ينهض رجل من مسلمي ماليزيا المتخصصين في الاقتصاد الريفي في جامعة الملايا، ويقدم عام 1958 بحثا إلى الحكومة يقترح فيه إنشاء مؤسسة ادخارية تمكن الحجاج من أداء الفريضة بيسر بحيث لا يحتاج فيه الحاج إلى بيع كل ما يملك. ذلكم كان الأستاذ أونكو عبد العزيز. ولعل قصة هذا الرجل تذكرنا بقصة نجاح رجل بنجلادش محمد يونس, الذي خدم مجتمعه بفكرة بنك الفقراء، ورفع اسم بلاده عاليا من خلال فكرة فذة وصادقة.
بعد خمس سنوات من تقديم أونكو عبد العزيز فكرته، بدأت هذه المؤسسة الادخارية عملها في أواخر عام 1963. ويمضي الزمان بها لتصبح اليوم إحدى المؤسسات المالية الراسخة والقوية في الاقتصاد الماليزي، بل الفريدة من نوعها في العالم.
إن نجاح أي مؤسسة يعتمد على كفاءتها وفاعليتها وكيفية تنظيمها لتحقيق أهدافها المحددة والمعلنة، بحيث تكون هذه الأهداف قابلة للقياس وممكنة التحقيق. وقد تحقق لها بالفعل نجاح مدو بفضل من الله تعالى أولا ثم بإخلاص القائمين عليها. فمن إيداعات كانت أقل من 50 ألف دولار عند إنشائها عام 1963، إلى إجمالي إيداعات (مدخرات) بلغت اليوم عدة مليارات!
وعلى الرغم من أن "طابونج حاجي" مؤسسة ادخارية في المقام الأول، إذ إنها لا تمارس أنشطة تجارية بصورة مباشرة، إلا أنه يحق لها إنشاء شركات تابعة لها. وبالفعل فهي اليوم تمتلك خمس شركات بصورة كاملة: شركتان زراعيتان تضمان عشرات آلاف الأفدنة من الأراضي المزروعة بأشجار نخيل الزيت والكاكاو والمطاط, إضافة إلى معاصر زيوت النخيل, وشركة نقل وسياحة وتجارة, تقوم بتأجير طائرات نقل الحجاج وتقديم خدمات السفر والتأمين, إضافة إلى توفير مستلزمات الحجاج (الإحرام، والأحزمة، والحقائب، ونحوها) وتوريد المعدات الطبية. وشركة رابعة للبناء والإسكان تبني وتبيع المساكن لأعضائها ولعامة الجمهور. وأيضا شركة خامسة لإدارة الممتلكات مهمتها توفير خدمات الصيانة والتجديد والأمن لمختلف مباني الهيئة.
وتملك مؤسسة طابونج حاجي اليوم جميع مباني مكاتبها, إضافة إلى مبان أخرى تقوم بتأجيرها للآخرين. ويعتبر مبنى مقرها الرئيس من المباني التي لا ينقطع الحديث عنها, فهو مبنى فريد ليس له نظير في العالم من حيث التصميم، بلغت تكاليفه نحو 110 ملايين دولار، لكن قيمته السوقية اليوم تبلغ 200 مليون دولار.
وقد كان لنجاح مؤسسة طابونج حاجي المذهل كمؤسسة ادخارية، أن أصبحت مؤسسة مرموقة في الاقتصاد الماليزي يتسابق الأفراد للإيداع فيها، كما يتدافع أصحاب رؤوس الأموال للمشاركة في مشاريعها. ومع ذلك، فإن المؤسسة تتحرى الدقة الكاملة في اختيار شركائها من المستثمرين ليكونوا من ذوي السجل المرموق في مجال الأعمال. والواقع أن استثمار المؤسسة لا يقتصر على الشركات التابعة لها، بل تمتد استثماراتها لتشمل شراء أسهم شركات أخرى. لكنها متى ما أصبحت مساهما كبيرا في شركة ما، حرصت على ضمان تناسب عدد العمال المسلمين في هذه الشركات مع غيرهم، وعلى تمثيلهم في مستويات الإدارة المختلفة. وبلغت جملة هذه الاستثمارات حتى عام 1986 نحو 686 مليون دولار، لكنها تعدت المليارات اليوم. ومن ناحية أخرى فإن للمؤسسة أيضا استثمارات قصيرة الأجل مع البنك الاسلامي الماليزي لغرض توفير السيولة اللازمة للإنفاق على الحجاج في كل موسم حج.
وهكذا فمن انتقال الحجاج الماليزيين عن طريق سفن البضائع التي كانوا يتعرضون خلالها لظروف قاسية، إلى النقل بواسطة سفن الركاب المريحة، ثم التوقف نهائيا عن النقل البحري اعتبارا من عام 1977 والبدء في استخدام النقل الجوي. ومن معدل وفيات مرتفع بين الحجاج سابقا، إلى معدل وصل إلى نحو 0.06 في المائة عام 1986، لينخفض إلى ما دون 0.01 في المائة في السنوات الأخيرة. وبعد رحلات كانت محفوفة بالمخاطر، إلى رحلات يجد فيها الحاج الماليزي بعد كل صلاة مفروضة، موظفين مختصين عند أبواب الحرمين الشريفين لمساعدة التائه منهم. ومن وضع كان الحاج الماليزي يصرف كل مدخراته وأملاكه لأداء فريضة الحج إلى وضع أصبح فيه الحاج يؤدي الفريضة مع عوائد سنوية على مدخراته بلغت 8.5 في المائة بعد إخراج الزكاة الشرعية. وهو عائد منافس جدا مقارنة بالعوائد على البدائل الأخرى.
لم تتمكن هذه المؤسسة الفريدة من تحقيق هدفها الأساسي المتمثل في تمكين الحجاج من أداء مناسكهم بيسر وسهولة ودون أن يتعرض مستواهم المعيشي للتدهور بعد العودة من الحج، بل أصبحت إحدى المؤسسات المالية القوية التي تشارك بفاعلية في النشاط الاقتصادي الماليزي. وفي السنوات الأخيرة، أصبحت "طابونج حاجي" مؤسسة ادخار واستثمار لعموم المسلمين – أكرر لعموم المسلمين- وليس للماليزيين فقط، وبنجاح ساحق يدعو حقيقة إلى الاعتزاز والفخر ويقدم أنموذجا للعمل المؤسسي الإسلامي المتسم بالكفاءة العالية والأداء الباهر. إنها مؤسسة فريدة في ذاتها، ووحيدة في العالم في مجالها! هذا مجال نحن كنا أولى به من غيرنا، والفرصة لا تزال في أيدينا.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي