أسرار نجاح وإخفاق التعليم العالي (1/2)
تداولت وسائل الإعلام المختلفة خبر المستوى المتدني للجامعات السعودية بالنسبة لمثيلاتها في العالم، حيث ذُكِرَ بأنها تقبع في ذيل القائمة من بين الثلاثة آلاف جامعة مختارة. بصفتي عضو هيئة تدريس في إحدى جامعاتنا العريقة، سوف أحاول توضيح ما يمكن توضيحه أو تفسير هذا اللبس. أعتقد بأنه سيان أن نكون في ذيل القائمة أو وسطها، لأن هذا يعطينا انطباعا بأن هناك مشكلة في التعليم الجامعي (التعليم العالي). بالتأكيد لن نكون من الجامعات الأوائل في العالم للأسباب التي سوف أذكرها. ولكننا بالتأكيد أيضا لسنا من أسوأ جامعات العالم للأسباب التالية:
أولا: معظم أعضاء هيئة التدريس في جامعاتنا السعودية من خريجي أحسن جامعات العالم مثل جامعة أم أي تي وجامعات إستانفورد وبيركيلي ويايل وبوسطن وترنتو ولندن وغيرها كثير. كذلك جميع خريجي الكليات العلمية (المتميزين) كالهندسة والطب والعلوم والصيدلة تم قبولهم بسهولة في أحسن جامعات العالم، وأثبتوا جدارتهم وتميزهم العلمي، بل هناك من أعضاء هيئة التدريس من نال جوائز عالمية مرموقة, وشارك في أبحاث متقدمة تخدم الإنسانية، ومنهم من عمل في أرقى مراكز الأبحاث العالمية مثل ناسا وبل لاب وكوم سات وغيرها. وهذا يثبت أن كفاءة عضو هيئة التدريس لا لبس فيها.
ثانيا: معظم الكليات العلمية (الطب والهندسة وعلوم الحاسب والتخصصات العلمية الأخرى) كان يشرف عليها في بداية إنشائها أرقى الجامعات العالمية أو مراكز أبحاث أو هيئات عالمية مرموقة وذات سمعة وكفاءة عالية في مجال التعليم. وهذا كان من الأسباب التي جعلت التعليم العالي في المملكة العربية السعودية يصل إلى ما وصلنا إليه من نجاحات وإبداعات يشهد بها القاصي والداني.
إذاً لماذا الجامعات السعودية تقبع في ذيل القائمة رغم أسباب النجاح المذكورة آنفاً؟
هناك عدة أسباب، من أهمها:
المكافأة المالية (الرواتب) التي يحصل عليها عضو هيئة التدريس، سواء أكان سعودياً أم أجنبياً، غير مجدية ولا تليق بحامل دكتوراه في تخصصات علمية متقدمة وتحتاجها الأمة، حيث يتقاضى العضو في بداية السلم الوظيفي حوالي 9600 ريال، بينما تجد أحد طلبته الخريجين بشهادة البكالوريوس أو خريجي الكليات العسكرية في بعض القطاعات الحكومية يتقاضى حوالي أثني عشر ألفا (12.000) ريال، وهذا يشكل عملية إحباط حقيقية لدى حاملي الدكتوراه حديثي التخرج بعد عودتهم لأرض الوطن، لأن هذا الراتب لا يضمن له حياة سعيدة ولا يمكنه من امتلاك منزل له ولأسرته، مما يضطرهم إلى البحث عن مصادر رزق أخرى أو البحث عن مكان آخر بمميزات أحسن ومرتبات أعلى، وهذا أحد الأسباب التي أدت إلى تسرب كثير من أعضاء هيئة التدريس ذوي الكفاءات العالية إلى القطاع الخاص أو إلى الجامعات الخليجية. وهذا يُساهم مساهمة فعَالة في تدني مستوى التعليم العالي.
بهذه الرواتب المتدنية لا يمكن الحصول على خبرات أجنبية ذات كفاءة عالية.
على سبيل المثال: نحن في قسم الهندسة الكهربائية حاولنا الحصول على عضو هيئة تدريس في مجال الاتصالات (معالجة الإشارات) ولأكثر من سبع سنوات، ولكن لم نحصل على الشخص المناسب لا من داخل العالم العربي ولا من خارجه, وذلك بسبب الكادر الوظيفي والمالي. وهذا من أبرز المعوقات التي تواجهها الجامعات السعودية.
الجامعات العالمية وعلى وجه الخصوص في العالم الغربي تتميز بالمرونة والاستقلالية وعدم ارتباطها المباشر ببعض الجهات الحكومية فمثلا صلاحيات رئيس القسم في الجامعات الأجنبية المرموقة تعادل (في الغالب) صلاحيات مدير الجامعة. وصلاحيات مدير جامعة في تلك الجامعات قد تصل إلى صلاحيات وزير التعليم العالي، حيث إن كل جامعة مستقلة بذاتها وتتحكم في مصادرها المالية بنفسها. بل وجدت أن هناك من أعضاء هيئة التدريس من يستطيع أن يجلب أحسن طلبة العالم (وخصوصاً من شرق آسيا) إلى جامعته، وتحت مسئوليته ومن ميزانية أبحاثه الخاصة. بل يستطيع إعطاءهم جنسية بلده. وهذا سر من أسرار التقدم العلمي في الغرب.
زيادة الإنفاق على البحوث العلمية وارتباط مراكز الأبحاث الجامعية بالصناعة، حيث أن هناك ثقة متبادلة فيما بين القطاع الخاص والجامعات.
كان التعيين في معظم المناصب (عميد أو رئيس قسم) في الجامعات السعودية يتم عن طريق الانتخابات, وهذا يولد المنافسة الشريفة والثقة في العضو المنتخب من قبل زملائه. قد يكون لها أثر إيجابي أحسن من التعيين المباشر والمتبع حالياً، والذي يقرره مجموعة قليلة من الأعضاء.
في المقال المقبل سوف أتطرق (إن شاء الله) إلى جامعاتنا الجديدة والتي كانت من ضمن المشاريع التنموية التي دشنها خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز حفظه الله حرصا منه أيده الله على تطور التعليم العالي ولقناعته بأهمية العلم لتطوير شعب هذه البلاد المباركة.